يقصد من تفتيش المحاكم بصفة خاصة تقييم تسييرها وكذا تسيير المصالح التابعة لها والتنظيمات المستعملة وكيفية تأدية موظفيها من قضاة وكتاب الضبط لعملهم"، هذا هو التعريف الذي أعطاه قانون التنظيم القضائي للمملكة الذي يعود إلى سنة 1974، والذي أرهقته كثرة التعديلات بفعل السنوات الكثيرة التي عمرها، ومؤخرا تهدمت الكثير من مواده بسبب الإلغاء بقوانين أخرى والتغييرات التي عرفها القضاء بمقتضى دستور 2011، ومع ذلك ما يزال هذا القانون أو جزء منه ساري المفعول إلى الآن.

لكن بقاء سريان هذا القانون إلى الآن بالشكل المبين أعلاه خلق وضعية تشريعية هجينة كان لها تأثير على إدارة المحاكم بفعل الازدواجية الناجمة عن الفصل بين التفتيش القضائي، الذي تحدثنا عن وضعيته الراهنة في الجزء الأول من هذا المقال، والتفتيش الإداري الذي نخصص له هذا الجزء؛ ذلك أنه كان المفروض أن تصدر القوانين المتعلقة بالسلطة القضائية وقانون التنظيم القضائي وقانون التفتيش القضائي في آن واحد، إلا أن ذلك لم يحصل، بل صدر فقط قانونا السلطة القضائية (النظام الأساسي للقضاة والمجلس الأعلى للسلطة القضائية)، وبقي قانون التنظيم القضائي عالقا بالبرلمان مند يونيو 2016.

فما هي إذن الوضعية الراهنة للتفتيش الإداري بالمغرب؟ وما هو الإطار القانوني المنظم لها؟ ذلك ما سنقف عنده في النقطة الثانية موضوع الجزء الثاني من هذا المقال.

ثانيا: التفتيش الإداري الراهن للمحاكم وإطاره القانوني

أصبح التفتيش الإداري إبان صدور القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية بتاريخ 15-03-2016 بعد مصادقة المجلس الدستوري عليه ودخوله حيز التنفيذ بتاريخ 06-04-2018 يوم تنصيب المجلس، محل تساؤل قانوني كبير، على اعتبار أن المفتشية العامة الوحيدة التي كانت بوزارة العدل وكانت لها اختصاصات تفتيش المحاكم بما تتضمنه من قضاة وموظفين لم تعد موجودة بعد نص القانون المذكور قبله على خضوع المتفشية العامة للشؤون القضائية للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وبعدما تم تعيين المفتش العام وفق ما سبق بيانه في الجزء الأول من هذا المقال، وجوهر الإشكال الذي حصل هنا يتعلق بالإطار القانوني الذي يحدد وجود متفشية عامة تابعة لوزرة العدل تتولى تفتيش الجانب الإداري والمالي للمحاكم.

وفي الواقع وأثناء النقاشات العامة، كان اتجاه وزارة العدل واضحا ومعلوما للجميع بكونها تتجه إلى العمل بنظام التفتيش المزدوج (إداري-قضائي)، وقامت بالتنصيص على صلاحيات التفتيش الإداري بشكل مفصل في مشروع قانون التنظيم القضائي الجديد، إلا أن عدم صدور هذا القانون بالموازاة مع استقلال المفتشية العامة للشؤون القضائية جعلها في فراغ قانوني حول هذا الجانب، وحتى قانون التنظيم القضائي القديم لسنة 1974 الذي مازال معمولا به لا يمكن أن يسعفها كثيرا، لأنه مازال ينص على مقتضيات تتعلق بالتفتيش القضائي، من قبيل أن يكون المفتش قاضيا بمحكمة النقض وعلى تفتيش الموظفين والقضاة.

ولذلك يمكن القول إن المفتشية العامة لوزارة العدل مازالت بدورها–وعلى غرار مفتشية الشؤون القضائية-تعاني من فراغ قانوني يحدد المهام بشكل واضح فيما يخص تفتيش المحاكم، وليس المصالح المركزية والإدارية للوزارة، لأن هذا الأمر الأخير يتضمنه المرسوم المنظم لوزارة العدل الذي نص على وجود مفتشية عامة ضمن الهياكل الإدارية للوزارة (المادة الثانية من المرسوم)، لكن هذا المرسوم وحده لا يمكنه حل مشكلة الاختصاص لأنه لو كان الأمر كذلك لما تم التنصيص على صلاحيات المفتشية الإدارية في صلب مشروع قانون التنظيم القضائي، ولكون المادة الثالثة من المرسوم المحدد لاختصاصات وزارة العدل تحيل بدورها على التنظيم القضائي الذي كما سبق القول أصبح مشوها بعد إلغاء العديد من مقتضياته وعدم مسايرتها للمستجدات القضائية الجديدة بالمغرب.

ويبقى أن ما تقوم به الآن المفتشية العامة لوزارة العدل من أعمال هو-في نظري-من قبيل الاجتهاد المبني على ضرورة استمرار المرفق الإداري بالاعتماد على ما جرى به العمل وعلى نصوص عامة في بعض القوانين والمراسيم، أهمها في قانون التنظيم القضائي لسنة 1974، بما لا يتعارض مع وضعية القضاء بعد دستور 2011 وتنصيب المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهذه الوضعية تعجلها محترزة كثيرا في عملها وتقتصر على الضروري منه فقط.

وإذا كانت هذه هي الوضعية القانونية الراهنة، فما هي الصلاحيات القانونية الممنوحة للمفتشية العامة في مجال التفتيش الإداري للمحاكم في ظل مشروع قانون التنظيم القضائي المنتظر؟

خصص مشروع قانون التنظيم القضائي للمفتشية العامة لوزارة العدل تسع مواد تحت عنوان التفتيش الإداري والمالي للمحاكم–عوض مادة واحدة في القانون الحالي-تضمنت منحها الصلاحيات الآتية:

- يمكنها القيام بمهام تفتيش مشترك بينها وبين المفتشية العامة للشؤون القضائية التابعة للمجلس (المادة 100 من المشروع).

- جعلها القانون خاضعة وتتبع مباشرة لوزير العدل وتقوم بمهامها استنادا إلى أمر الوزير في مهمة محددة أو بناء على شكاية أو وشاية تتعلق فيما قد ينسب للموظفين (المقصود الموظفين بالمحكم والمصالح الأخرى التابعة للوزارة) من أفعال قد تكون محل متابعة تأديبية، وتقوم بعملها بالتنسيق مع المسؤولين القضائيين والإداريين (المادتان 104 و105 من المشروع)، وتوجه تقاريرها وخلاصات التفتيش إلى الوزير مذيلة بنظرية المفتش العام (المادة 109 من المشروع).

- لا يمكن مواجهة المفتشين الذين يتبعون للمفتشية العامة لوزارة العدل بالسر المهني (الفقرة الأخيرة من المادة 105 من المشروع).

- أوجبت المادة 106 من المشروع على المسؤولين القضائيين والإداريين إخبارها بكل الوقائع والاخلالات المنسوبة للموظفين التي قد تشكل محل متابعة تأديبية.

- منح مشروع القانون للمفتشين صلاحيات واسعة في التحري والبحث، تتمثل في الاستماع إلى المسؤولين القضائيين والإداريين والموظفين (وإذا تعلق الأمر بضرورة الاستماع إلى قاض تتولى المفتشية العامة للشؤون القضائية التابعة للمجلس الاستماع اليه)، والاطلاع من جميع المؤسسات العامة والخاصة بما في ذلك الأبناك وشركات الاتصال على كل المعلومات التي تفيد البحث والتحري (المادة 107 من المشروع).



عبد اللطيف الشنتوف