المغرب، في شخص ملكه ممثله الأسمى، لا يفتأ يوجه النداء تلو النداء في مختلف المناسبات لطي صفحة الماضي بما يعود على الشعبين الشقيقين وكذا شعوب المنطقة بالنفع والرفاه، وصولا إلى خطاب المسيرة الخضراء الذكرى الـ43، الذي يعتبر بحق خطابا فارقيا في مسار العلاقات المغربية الجزائرية، يتأسس على شق بمثابة الأساس وآخر عملي يمثل البناء. إنه بحق خارطة طريق في اتجاه تجاوز مطبات الوضع غير الطبيعي بين الشعبين، ما يجمع بينهما أكثر بكثير مما يفرقهما، ومع ذلك فالحدود مغلقة ربما هي الأطول من نوعها (24 سنة) بين قطرين متجاورين.

فالخطاب أكد على وحدة الدين ووحدة اللغة ووحدة التاريخ. كما استحضر حدث مؤتمر طنجة التاريخي، الذي جمع منذ ستين سنة أقطاب حركات التحرر في المنطقة، تأكيدا منهم على المصير المشترك لدول شمال افريقيا، دون أن يفوت الخطاب الإشارة إلى موقف المغرب المساند للمقاومة الجزائرية، إذ كان يمثل قاعدتها الخلفية، مذ وطئ الاستعمار أرض الجزائر، فضلا عما كان من محمد الخامس طيب الله ثراه لما رفض رفضا قاطعا مناقشة ترسيم الحدود مع المستعمر الفرنسي، مؤكدا أن الحسم لن يكون سوى مع الإخوة الجزائريين بعد نيل استقلالهم.

خطاب صريح لم يترك دليلا إلا واستحضره، ليؤكد على الرغبة المغربية لطي صفحة الفرقة والتشرذم، وفتح صفحة العمل المشترك بما يعود بالنفع على مواطني الشعبين الشقيقين، وتجاوز الوضع الشاذ بين جارين المفروض أن يكونا يدا واحدة على التحديات المحدقة بالمنطقة وما أكثرها. فنهضة المنطقة وتنميتها تتوقف أساسا على تضافر إمكانات القطرين معا، باعتبارهما حجر الأساس فيها بلا غالب ولا مغلوب.

خطاب حاسم يضع البلدين أمام مسؤوليتهما التاريخية. فالدعوة صريحة إلى الحكمة والتعقل لتجاوز كل ما من شأنه تعطيل حركة العجلة نحو بناء صرح المغرب الكبير. وهكذا بعد أربع فقرات أو خمس من التأكيد على فريضة الوحدة والتكامل، تُوِّج الخطاب الملكي بالحديث النبوي الكريم عن الجار وضرورة الإحسان إليه. بعده مباشرة دعا الخطاب الملكي المفعم بالأمل إلى خلق آلية سياسية مشتركة باتفاق الطرفين على شكلها وطبيعتها، تهتم بـ:

- ببسط كل الملفات على طاولة الحوار ومناقشاتها بكل شفافية ومسؤولية،

- التعاون الثنائي بين البلدين في كل المشاريع الممكنة

- بحث سبل التنسيق بين البلدين فيما يتعلق بكل القضايا المطروحة على البلدين كالإرهاب العابر للقارات، والهجرة السرية، والحركات الانفصالية التي باتت تهدد أكثر من دولة إفريقية. من هنا كانت فرادة الخطاب وتميزه. لقي تأييدا مطلقا من قبل كل مكونات النسيج المغربي ومباركتها، وكذا استحسان مجموعة من الدول الكبرى. لكن في غياب رد رسمي انبرى بالتشكيك بعض التيئيسيين والعدميين من الجزائر الشقيقة، وبعض المغرضين ممن يعتاشون على الوضع القائم، أو ممن توقف بهم قطارهم عند محطة القرن الفائت، بما كان يعج به من صراعات إيديولوجية في إطار الحرب الباردة بين القطبين الرئيسيين؛ فمنهم من يردد بأن الخطاب لم يأت بجديد، ومنهم من يقول بأن المناسبة غير بريئة، بما أننا مقبلون على مفاوضات دجنبر بجنيف، ومنهم من يتطرف أكثر ليقول إن المخزن يصدر أزماته إلى الخارج (ضربني وبكا سبقني وشكا)، فيرفعون أسطوانتهم المشروخة كل مرة يُبدي فيها المغرب رغبته لتجسير العلاقات، بقولهم أن تحسينها رهين بوقف تشويه صورة الجزائر عبر وسائل الإعلام المغربية، ووقف تدفق المخدرات، واحترام موقف الجزائر الثابت بخصوص الصحراء الغربية المرتبط بحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره.

ودون الدخول في مناقشة هذه الشروط التي لا أساس لها، تكفي الإشارة إلى دراسة سابقة تفيد بأنه خلال سنة واحدة تم إحصاء 1600 مقالة بالصحف الجزائرية، تتعلق كلها بالمغرب، بمعدل خمس مقالات في اليوم، منها حوالي 700 مقالة حول صحرائنا المغربية، كلها مغالطات وقلب للحقائق والنيل من المغرب ملكا وشعبا. ومن ينسى استغلال صورة الطفلة الفلسطينية التي أصيبت في رأسها على إثر العدوان الصهيوني على قطاع غزة، نقلوها وقدموها للرأي العام أنها أصيبت في مواجهات مع قوات الأمن المغربي، إلى أن حسم أبوها الأمر فأخرست ألسنتهم. ومن ينسى ما روجوا له في أحداث إكزيم إيديك.

نماذج كثيرة، مقابل الإعلام المغربي الذي نادرا ما يتعرض للوضع بالجزائر. فالمغرب اليوم، وهو يمد يده لطي صفحة الخلافات، أقوى بكثير من أي وقت مضى. في عجالة يمكن رصد بعض تجليات قوته:

- عودة المغرب السياسية إلى المنتظم الإفريقي، بتأييد أغلبية كبيرة من الدول الإفريقية، على الرغم من المحاولات اليائسة لبعض الأطراف التي لا تهمها مصلحة شعوبها بقدر ما تهمها أرصدتها الشخصية، بما أنها تعتاش على جثث الأزمات في إطار صفقات التسلح وغيرها.

عودة حظيت بمباركة مجموعة من الدول الكبرى، بما أن الاتحاد الإفريقي ربح دولة رئيسة في القارة.

- قبل هذه العودة سبقتها يد المغرب الممدودة لكل الدول الإفريقية في إطار التعاون الاقتصادي بمنطق غير مسبوق "رابح رابح"، من خلال مشاريع تنموية كبرى شملت أساسا التعاملات في القطاع البنكي والاتصالات وقطاع العقار والصناعة وغيرها، مع ما يرافق ذلك من المبادرة الملكية لتسوية وضعية المهاجرين الأفارقة على دفعات.

- الاستقرار السياسي الذي ينعم به المغرب. نعم هناك نقاشات حادة، هناك احتجاجات قد تصل إلى مواجهات؛ لكن تبقى في إطار معقول كما يحدث في كل بلاد المعمور. نعم لا نزال نتلمس طريقنا نحو الديمقراطية، لكن لم يتم أبدا الانقلاب عليها لتخلف آلاف الضحايا بين قتيل وفقيد ومعطوب.

- المغرب اليوم له قاعدة صناعية مهمة، أهلته إلى مزيد من استقطاب رؤوس أموال كبيرة للاستثمار في صناعة السيارات وكل ما يتعلق بها من اكسيسوارات، أصبح ينافس حتى بعض الدول الأوروبية؛ بل أصبح قبلة حتى للاستثمار في قطاع غيار الطائرات، يوازيها تأهيل موانئه (الميناء المتوسطي) ومطاراته وتطوير شبكته السككية (البراق نموذجا(.

- انضمام المغرب إلى نادي الدول المالكة للأقمار الصناعية، بإطلاقه قمر صناعي محمد السادس -ب- بنجاح عالي الدقة، من قاعدة كورو بغوايانا بأمريكا الجنوبية، ليقوم بدورته الكاملة حول الأرض كل 97 دقيقة، بسرعة 27 ألف كلم في الساعة، بعد إطلاقه للقمر محمد السادس- أ- منذ حوالي سنة، بأهداف مدنية وأمنية تتوزع بين القيام بالمسح الخرائطي، والرصد الزراعي، ورصد حالة المناخ والوقاية من الكوارث الطبيعية ورصد التغيرات البيئية والتصحر وتتبع المشاريع الكبرى وشبكات النقل والتواصل، ومراقبة الحدود والسواحل، والسيطرة على موجة الهجرة غير الشرعية.

- نجاح المغرب في سياسته الدينية والروحية، لا أدل على ذلك من الاستقبالات التي يحظى بها العاهل المغربي حيثما حل وارتحل بمجموعة من الدول الإفريقية، من قبل شيوخ الزوايا التاريخية المعروفة، وكذا الاستقطاب الذي عرفه معهد محمد السادس لتكوين المرشدين والمرشدات للراغبين من هذه الدول، وعقد اتفاقات رسمية لتكوين أئمة ومرشدين (دولة مالي 500 إمام بالمغرب)، وكذا في سياسته الأمنية، فمجموعة من الدول الإفريقية لا يضعون ثقتهم إلا في الأمن المغربي لحماية مواقعها الحساسة، لما يتميز به المغاربة من كفاءة مهنية وصدق طوية. تعززت هذه السياسة مؤخرا بإشراف المغرب على تدريب حوالي 1500 من مختلف الرتب العسكرية، في إطار علاقات التعاون مع الدول الإفريقية الصديقة. هذا دون الحديث عن الصناعة الطاقية (محطة نور- ورزازات أكبر محطة في العالم للطاقة الشمسية)، وتطور الحركة السياحية بالمغرب، والحركة السينمائية (ورزازات هوليود إفريقيا).

فما المانع لنكون في مستوى الأمم المتقدمة التي تسلحت بالعقل والحكمة وطوت صفحات الدم عاشت فصولها إبان الحروب العالمية أتت على أخضرهم قبل يابسهم، لم نعش عشر معشار ما كابدوه وعانوا منه. أنهار من الدماء والدمار، بلغت ببعض دولها فرنسا وألمانيا ليأكلوا الجيف، وأصبحت للحوم الكلاب والقطط أسواقا تباع فيها وتشترى من شدة الجوع ونفاد مخزون الأغذية. إنهما اليوم يتوليان قيادة سفينة الاتحاد الأوربي ويحرصون على بقائه وتقويته.

فالمغرب يدرك، بدعوته الصريحة هاته، كما ورد في الخطاب الملكي، ضرورة التكامل والاندماج، بما أن كل مقومات النهوض متوفرة، مساحة بحوالي 6 م كلم مربع، ساكنة بحوالي 100 م نسمة، على طول شريط ساحلي يبلغ حوالي 6505 كلم، دين واحد، لغات مشتركة، موقع استراتيجي مهم، صلة وصل بين قارتي إفريقيا وأوروبا، نشاط اقتصادي متنوع، زراعة، سياحة وآثار، ثروات هائلة من نفط وغاز وفوسفاط ومعادن وثروة سمكية هائلة. فما الذي بقي لنكون أحسن مما نحن عليه؟ أم يصدق علينا قول الشاعر:

كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول؟

بوسلهام عميمر