يبدو أن التاريخ في عالمنا العربي يُعيد نفسه خاصة في شقّه المُتّصل بالحُكّام الطُغاة الذي يمثل آل سعود أدقّ نموذج عربي مُعاصِر لهم، حيث أتذكَّر أنه العام 1988 أصدرنا الأعمال الفكرية الكاملة التي ألّفها جهيمان العتيبي وحملت عنوان (رسائل جهيمان العتيبي قائد المُقتحمين للحرَم) وسارعت السعودية وقتها، تماماً كما هي حالها اليوم وكما تبدّو جلياً في قضية قتل جمال خاشقجي، بالاحتجاج لدى وزارة الإعلام المصرية التي كان يرأسها وقتها ضابط المخابرات الأسبق صفوت الشريف، المسجون الآن في قضايا سرقة وفساد، فصادروا الكتاب وعاقبوا الناشِر(مكتبة مدبولي) وما كان مني كمؤلّف للكتاب، إلا أن رفعنا دعاوي قضائية  كانت نتيجتها أن رأى  الكتاب النور وطبعت منه ثلاث طبعات في أقل من عامٍ واحد، وذاع صيته أكثر بسبب  التخلّي الغبي للسلطات السعودية ضدّ حرية النشر.

لماذا نذكر هذه الواقعة الآن؟  

أولاً

لأن هذا الأسبوع مرّت الذكرى الـ 40 للحادثة التي زلزلت مُلك آل سعود، فهي بدأت في يوم 21/11/1979، ولم تستطع السلطات السعودية السيطرة على المُقتحمين والتخلّص منهم وعددهم كان قد اقترب من ألف مُقاتل ومُعتصم إلا بعد شهر من القتال ساندتهم فيه قوات فرنسية وأردنية وباكستانية.

ثانياً

لأن ثمة تشابهاً في المواقف والسياسات السعودية الحاكِمة  تجاه المعارضين لها، فلا حوار ولا إنصات للمطالب بل ذبح وقتل وتنكيل غير آدمي، وحادثة خاشقجي مثال أخير على ذلك تماماً مثلما كانت حادثة جهيمان مع الفارِق في قوّة الرأي العام ووسائل التواصل الحديثة.

ثالثاً

نكتب عن حادثة جهيمان لنؤكّد أن ثمّة عشرات إن لم يكن آلاف من جهيمان العتيبي لا يزالون موجودين كخلايا نائِمة في المملكة نتيجة الثقافة الوهّابية المُتشدِّدة والتي تنتج كل صباح عشرات الدواعش والتكفيرين، ولاتزال سياسات القهر والإذلال السعودي الحاكِم تفرز مناوئين له حتى من داخل نفس الثقافة الوهّابية.

لكل هذا تأتي أهمية تذكّر الحدث ودلالاته لعلّ مَن في عقله رُشد داخل المملكة يتدبّر ويتّعظ وينتبه ويعود إلى جادة الإسلام المُحمّدي الصحيح وإلى أصول السياسة الراشدة التي تقبل بالآخر ولا تراه شيطاناً يستحق القتل بالسيف والآن بالمنشار.

بداية يُحدّثنا التاريخ بأن جهيمان بن سيف العتيبي بعدما دخل الحَرَم بنيّة الاعتصام وليس القتال، وبهدف تقديم مطالب للإصلاح وتطهير المملكة من الفساد وفقاً للشريعة الإسلامية كما فهمها، وكما رأى أن آل سعود قد تخلّوا عنها، بعدها بعدّة أيام وصلت الأوامر ببدء الهجوم عليه وعلى رفاقه من المُعتصمين (أو المُقتحمين للحَرَم المكّي) من مقرّ فهد في تونس، حيث كان مسافِراً أوهارِباً هناك، فقام وزير الداخلية بإبلاغ وزير الدفاع الذي كان متواجداً في مكّة عند الحَرَم يستحثّ قوّاته على الهجوم، أبلغه بالأوامر التي كان ينتظرها.

غير أن وزير الدفاع (وهو الأمير سلطان بن عبدالعزيز)عجز لساعاتٍ عن إقناع جنوده بخوض المعارك داخل الحَرَم.. ويذكر (روبرت لاكي) الذي أمضى خمس سنوات في السعودية، تعلّم خلالها اللغة العربية، وكتب كتاباً عن البلاد باسم (المملكة) كان خلاصة المعلومات التي حصل عليها من خلال مُقابلاته العديدة لمئات الأمراء المسؤولين.. يقول هذا الكاتب: إن الأمير سلطان خطب في الجنود حاثّاً إيّاهم على القتال دفاعاً عن الإسلام والوطن، لكنهم لم يستجيبوا.. لأن القتال في الحَرَم أمرٌ لا يقبله إلا مَن لا دين له ولا شرف، فغضب سلطان من هذا العصيان الصريح للأوامر العسكرية خصوصاً أن العُلماء لم يصدروا فتوى تُجيز القتال حتى ذلك الحين، مع العِلم أن التربية العسكرية لأفراد القوات المُسلّحة لا يدخل فيها أيّ اعتبار لشرعية القتال وضرورة إجازة العلماء له ، وإنما المهم فقط إطاعة أوامر القيادة السياسية فحسب.

بعد هذا، جاء الأمراء بعددٍ من وعّاظ السلاطين الذين كانوا متواجدين في مكّة لإقناع الجنود بما عجز سلطان عن إقناعهم به، غير أن الجنود أصرّوا على أن يصدر الشيخ إبن باز (كان وقتها هو المفتي) فتوى بذلك، وهو ما لم يكن متوافراً حينها وعادت الأمور إلى التوتّر ووصل الأمر إلى تمرّد بعض أفواج الجنود على كل الأوامر العسكرية ، ولم يستجيبوا لطلب قاداتهم الأعلى مرتبة. وهنا قام سلطان خطيباً مرة ثانية وثالثة فامتدح الجنود وإخلاصهم لدينهم ومليكهم ووطنهم وأشار بيده إلى المسجد الحرام المُحاصَر وقال : إن هذا أقدس مكان على وجه الأرض، وهو محتل من (الخوارج) المُعادين للإسلام ثم رمى بسترته إلى الأرض وصاح: إذا لم تقاتلوا أنتم دفاعاً عن بيت الله، فمَن الذي يُدافع عنه؟ هل آتي بالجنود الباكستانيين ليُقاتلوا عنكم؟ وختم خطابه بأن أبدى ثقته مرة أخرى بولاء المُقاتلين الجنود وأنهم سيُقاتلون.

ما إن انتهى من خطابه حتى صاح عدد من الضبّاط الكبار (من عيّنة أحمد العسيري قاتِل جمال خاشقجي ...أي من المُنافقين) مُعلنين استعدادهم لخوض المعارك وآلت الأمور إلى عملٍ حاسمٍ وسريعٍ، فالذين لا يُقاتلون يُرسَلون إلى السجون والمُعتقلات، والراغِبون في نَيْل (الشهادة) يتقدّمون كما أوهمهم الأمير سلطان يُقاتلون، وهكذا جاء الحل بعد حين، رغم العقبات الشديدة.

وبالفعل رفض مئات من الجنود خوض المعارك، فأرسِلوا إلى سجون جدّة ومكّة بعد تجريدهم من أسلحتهم. تقدّم الجنود السعوديون من المسجد في بادىء الأمر، وأطلقوا النار على أفراد الجماعة المُتحصّنين في المنابر والسطوح، تتقدّمهم المُدرّعات التي تشكّل درعاً واقية من الرصاص القادِم من الأعلى، غير أن هذه المُدرّعات لم تستطع التقدّم كثيراً، وتوقّفت عند أبواب الحَرَم وهنا خرج الجنود محاولين فتح الأبواب وكأنهم في نزهةٍ سريعةٍ، غير أن أفراد الجماعة أفنوهم عن آخرهم بعد أن ظهروا أمامهم بلباسهم العسكري.

التقدّم نحو الحَرَم مُكلِف بشرياً وفَتْح الأبواب عمل ضخم لا يستطيع الجنود القيام به حتى ولو وصلوا إليها وهنا جاءت الاستعانة بالقوات الأجنبية.

استمرّ تبادُل إطلاق النار بين الجانبين إلى ما قبل وقت الظهر في يوم الأربعاء 21/11/1979.. القوات الحكومية تُطلق النار من الأزقّة المُحيطة بالحَرَم، أو من وراء المُدرّعات والدبّابات الرابِضة قبالته، وجهيمان ورجاله يردّون على المدافع الرشّاشة الحكومية بأسلحتهم الخفيفة.

المشكلة التالية التي واجهت المسؤولين وقتها، كانت سياسية وإعلامية بالدرجة الأولى، فهم أعطوا انطباعاً لدى الرأى العام الداخلي في البيان الذي صدر في اليوم الأول لبدء المعارك (21/11/1979) ووصف أفراد الجماعة بأنهم (زُمرة) للتقليل من شأنهم، وهذا يعني أن هذه الزُمرة سيُقضى عليها سريعاً، خلال ساعات أو أيام قلائل، ولكن ذلك لم يحدث فالنظام كان حريصاً على هيبته، فلم يشأ القول بأن عدد المُعتصمين كبير، وأنهم ليسوا (شرذمة) أو (زُمرة) لأنه إن فعل فإنه يعني بأنه يعترف بوجودِ معارضةٍ كبيرةٍ للنظام والأسرة الحاكِمة، ويكسر جدار الخوف أمام فئات الشعب للالتحاق بالمُعارضين.

واستمرّ القتال داخل الحَرَم  22 يوماً، وتمّت إبادة أغلب المُعتصمين باستخدام أسلحة مُحرَّمة دولياً وقوات أجنبية، المفروض وفق فتاوى الوهّابية التاريخية لا تدّنس أرض الحَرَم المكّي، لكن استحلّ آل سعود كما هي عادتهم اليوم وربما غداً، ما حرَّمه المشايخ، وصنعوا إسلاماً على مقاسهم وقتلوا  أغلب المُعارضين وسُجِنَ الباقي منهم وخاصة مَن هم من جنسيات أخرى، ومن الأمور الهامة هنا أن نذكر أن 9 مصريين قد تمّ الإفراج عنهم عام 1986 بعد الحادث بسبع سنوات، وبعد العديد من الحملات الصحفية المُعارضة في مصر، إن الدرس البليغ لحادثة جهيمان كما هي حادثة خاشقجي، أن دين المُستبّدين واحد وهم مَن يصنع المُعارضين لهم بتجبّرهم واستحلالهم للدمّ الحرام، ولذا ستكون عاقبتهم أكثر إيلاماً في الدنيا والآخرة وما ذلك على الله ببعيد.


رفعت سيد أحمد