هل يُنتظر أن يُجنى من الشوك عنب؟ أو من العوسج تين؟ بالقطع لا، ولن يكون ذلك ممكنا إلى الأبد، فإيران نظام دوجمائي له هدف واضح ورؤية يقينية مطلقة لا تقبل التشارع أو التنازع، الأمر الذي يجعل الحلم بأن تغير إيران موقفها، بل مواقعها ومواضعها حول العالم، أمر من قبيل الأحلام.

الإعلان الوهمي من قوات الباسيج التي فرضت الولايات المتحدة عليها، وعلى الشركات والمؤسسات التابعة لها عقوبات صارمة مؤخرا، يحاول أن يضفي صورة خادعة على الداخل الإيراني، وكأنها الدولة التي تحتل فيها المواطنة درجة عالية ومتقدمة، وهي في الأصل تقوم بقطع ألسنة المعارضين.

تدخل إيران هذه الأيام حالة الإنكار، بالضبط كالمريض الذي يرفض التشخيص الطبي له حين يصاب بعلة لا أمل في الشفاء منها، ولهذا يسارع إلى إحاطة ذاته بأنشطة لا فائدة منها، سوى أنها تقدم له نوعا من أنواع الإلهاء النفسي إن جاز التعبير، إلى أن يحين الأجل المحتوم.

حدثان يوضحان لنا دخول إيران حالة الإنكار المرضية، الأيام القليلة الفائتة، أما الحدث الأول فقد تمثّل في إعلان قائد القوة البحرية التابعة للجيش الإيراني، الأدميرال حسين خانزادي، في الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، أنه "سيتم تدشين مدمرة وطنية الصنع في مياه جنوب إيران"، وأنها ستكون محلية تماما ومزودة بأحدث الأجهزة، لتضاف إلى إمكانيات البلاد الدفاعية.

النبرة الجنونية التقليدية في الخطاب الإيراني تبقى حاضرة في هذا الإعلان، فالرجل الأدميرال يعتبر أن: "إطلاق هذه الغواصة سيذهل الأعداء، لما فيها من تقنية حديثة ومتطورة"، حسب وصفه، "وليس في مستطاع كارهي وحاسدي إيران أن يتصوروها".. أين مساحة الوهم والحقيقة في هذا الإعلان؟

قبل الجواب، دعونا نُذكِّر بأن الجيش الإيراني من حيث التسليح دون مغالاة أو تزيُّد "نمر من الورق"، فمعداته تعود إلى سبعينيات القرن المنصرم، وغالبها من مخلفات الترسانة العسكرية السوفييتية، ولم تطالها يد التحديث أو التجديد طوال عقود.

الأمر الآخر هو أن معظم معدات الجيش الإيراني تكاد تكون معطوبة، ومرد ذلك أن قطع الغيار الحديثة لم تعد تعرف طريقها لإيران منذ فترة طويلة، لاسيما من جراء العقوبات الاقتصادية التي وقعت على البلاد، ولهذا لم تجر عملية إحلال وتبديل في الأسلحة الرئيسة للقوات الإيرانية، وفي المقدمة منها القوات الجوية، وسلاح القوات الجوية، تلك التي تعتبر "القلب الصلب" لأي بناء عسكري معاصر.

حديث إيران المحاصرة بالعقوبات عن غواصة أو مدمرة جديدة هو حديث الإفك، فالقاصي والداني قد سبق له إدراك الكذب الذي يحيط بالمنظومة الدعائية العسكرية الإيرانية، فقبل بضعة أشهر أعلن الإيرانيون عن طائرة إيرانية محلية الصنع، ومن ثم صدعوا العالم برمته بنموذجها وقدراتها القتالية، وروجوا صورا لها عبر وسائط الإعلام التابعة لهم من جهة، ومن خلال الأدوات المليشياوية التابعة لهم.

غير أن الحقيقة كانت فاضحة للملالي ولعسكرييهم ولكل من لف لفهم، فلم تكن الطائرة إلا معدة عسكرية أمريكية قديمة من طراز (F5) أكل عليها الزمن وشرب، وما الأمر برمته سوى بروباجندا دعائية فارغة، أحبطت الإيرانيين عوضا عن أن ترفع معنوياتهم في سياق مجابهتهم للغرب.

الإعلان ذاته يسرع بسقوط نظام آيات الله، ويبدو أن حاسة السمع لديهم لا مكان لها في حاضرات أيامنا، أو قل أنها معطلة عمدا، ذلك أن خامنئي وروحاني، لم تصل إلى آذانهما صيحات رجالات كبار شغلوا مناصب متقدمة في حكومات إيرانية سابقة، مثل الرئيس الأسبق محمد خاتمي الذي حذر من أن الدولة الإيرانية على وشك السقوط إن لم تتم عملية إصلاح جذرية قبل فوات الأوان.

ليس لأحد أن يقنعنا بأن روحاني من الحمائم ومن عداه من الصقور، فهذا خلط للأوراق، ذلك أن كلاهما يلفان في دائرة الإرهاب، الفارق فقط هو أن خاتمي براجماتي مستنير، يعلم تمام العلم أن إعلان مثل هذا الأخير، سوف يترك أسوأ الانطباعات لدى رجل الشارع الإيراني، هذا المهموم والمحموم بالبحث عن لقمة العيش والحياة الكريمة، وأصوات الذين نزلوا الشوارع من الإيرانيين الأيام الفائتة لم تصل بدورها إلى آذان القيادة الإيرانية، وغالب الظن أن الشعب المقهور والمقموع يتساءل: "ما فائدة الغواصات والمدمرات العسكرية في ظل غياب رغيف الخبز وفرصة العمل وكرامة الحياة"؟

مؤكد أن الإعلان عن تلك الغواصة يحمل شيئا دفينا في صدور القيادة الإيرانية الحالية، للطفو على سطح الحياة العلنية، وترك النوايا الباطنية.

إعلان المدمرة يعكس النوايا الحقيقية لنظام يسعى لعسكرة المشهد في مياه منطقة الخليج، وربما الشرق الأوسط، وتاليا بسط المزيد من الهيمنة الشريرة، وعينه على المياه الأبعد في الجنوب حيث أعوانه من الحوثيين، وباب المندب والبحر الأحمر، وصولا إلى قناة السويس المصرية، ولهذا فإنه حين يتحدث الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عن أمن الخليج العربي ووحدته العضوية ضمن سياقات وأطر الأمن القومي المصري، فإن الرجل لا يماري، وإنما ينطق بالحق دفعة واحدة.

الحدث الآخر الذي جادت به الأخبار نهار السادس والعشرين من الشهر الماضي، هو إعلان "رضا نيزدي" قائد إحدى الكتائب بقوات الحرس الثوري، أن "إيران جاهزة لتشكيل فرقة باسيج مكونة من أتباع الديانات الأخرى ابتداء من اليوم، للاستفادة أكثر من قدرات أتباع الديانات الأخرى"، حسبما نقلت وكالة "تسنيم" المقربة من الحرس الثوري.. هل من عاقل له أن يصدق الحديث المتقدم؟ وعن أي أتباع أديان يتحدث "نيزدي"؟ سيما وأنهم في الأسابيع الماضية قدموا للإعدام عشرات من المسلمين السنة، ونفذوا بالفعل أحكاما جائرة، من يتبقى إذن؟ يهود أم مسيحيون إيرانيون لا يزيد عددهم في أحسن الأحوال عن عدة عشرات من بقايا باقية؟

الإعلان الوهمي من قوات الباسيج التي فرضت الولايات المتحدة عليها وعلى الشركات والمؤسسات التابعة لها عقوبات صارمة مؤخرا، يحاول أن يضفي صورة خادعة على الداخل الإيراني، وكأنها الدولة التي تحتل فيها المواطنة درجة عالية ومتقدمة، وهي في الأصل تقوم بقطع ألسنة المعارضين، إن لم تقودهم إلى الفناء أدبيا وجسمانيا، بل وصل بها الحد إلى القبض على رموز سابقة في حكومات إيرانية.

هل هي مرحلة متقدمة من اشتداد المرض الإنكاري في العقلية والجسد الإيرانيين دفعة واحدة؟

ربما هناك ما هو اسوأ في الكيان الإيراني المريض، والذي يتوهم مؤخرا بأنه قادر على وضع العصا في دواليب حلف الناتو، ذاك الذي صمد طويلا، وعلى مدى أكثر من أربعة عقود، في وجه الستار الحديدي والاتحاد السوفيتي وحلفائه في حلف وارسو.

قبل أيام، كان قائد القوات البحرية الإيرانية "حسين خانزادي" يتحدث عن أنه يخطط لإرسال الأسطول الإيراني إلى شواطئ إيطاليا عما قريب، والسؤال هل يمكن أن يكون هذا حديث عقلاء؟

سنترك الجواب للقارئ، فقط دعونا نُذكِّر بما يلي: إن مدينة نابولي في جنوبي إيطاليا هي مقر الأسطول السادس الأمريكي المسؤول عن البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى ذلك فإن الجيش الأمريكي موجود أيضا في صقلية، وأخيرا فإن مجموعة كبيرة من القوات المشتركة لحلف الناتو تتمركز أيضا في جنوب إيطاليا، وروما عضو في حلف الناتو منذ اليوم الأول لتأسيسه وحليف وثيق للولايات المتحدة.

هل سيرسل "خانزادي" أسطول إيران البحري، إن كان ما لديه من قطع بحرية ينسحب عليها لفظ أسطول بالفعل أم لا، إلى إيطاليا دون إذن منها؟ أم أن الإيطاليين اليوم قد باتوا حلفاء لإيران الشقيقة والوثيقة وخلعوا عنهم رداء الناتو إلى غير رجعة؟

حُكما، الحديث يصب في خانة الأمراض النفسية الإيرانية، وحديث الإنكار الذي نقول به ربما يعبر عن حالة إيران قبل الساعة الحادية عشرة، سيما وأن أوروبا في الحال تدرس فرض عقوبات مشددة على طهران، وفي الاستقبال حتما ستكون متفقة في وحدة الرأي والتوجه مع العم سام.

الخلاصة لإيران.. الإنكار لا يفيد ولا ولن يغير من واقع حال الدولة المأزومة والمحاصرة في انتظار القضاء المؤكد، فدولة الظلم ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.

إميل أمين