مع اشتعال الأعمال الإرهابية في محافظة المنيا، شمال صعيد مصر، في تسعينات القرن الماضي، كنت في بداية المرحلة الابتدائية، وكان زميلي الجالس بجواري في الفصل يكره المسيحيين، ويرفض التعامل معهم، أو الشراء منهم، بل ويكره من يتعامل معهم، وكان ينصحني ونحن لانزال أطفالاً، بعدم السلام عليهم، أو الأكل معهم، بحجة أن «أكلهم طعمه وحش!»، وأن «رائحتهم وحشة» أي كريهة!، وكان يبرر خروجهم من الفصل في «حصة الدين»، بعلتين؛ الأولى «رائحتهم» التي يجب التخلص منها أثناء الكلام في الدين، والثانية لأنهم يشتمون النبي عليه الصلاة والسلام في حصتهم، فيستحيل أن يفعلوا ذلك وهم معنا في حجرة دراسية واحدة.


زميلي «الطفل المتطرف» كان يرفض أن أطلق على زميلنا مينا لقب «مسيحي»، ويقول هو «مُصراني» بضم الميم، ويقصد بها «نصراني»، إمعاناً في الكراهية له، هذا الكلام الذي يشبه حكايات «أبو رجل مسلوخة» و«أمنا الغولة» لم يكن من نسج خيال طفل بريء، وإنما هي ثقافة حاولت البيئة الأسرية والمحيط الاجتماعي الفاسد ترويجها، في ذلك الوقت، بعد أن ساهمت في قتل براءة الأطفال، لتحولهم مستقبلاً إلى متطرفين ثم إرهابيين تتلطخ أيديهم بدماء الأبرياء.. هذه الثقافة تبدأ بالتحذير والتكفير وتنتهي بالقتل والتفجير ... التحذير من شراء الحلوى من كشك بقالة أم صفوت المسيحية، والشراء من أم خالد، ليس بسبب أن منتجاتها أجود، وأسعارها أرخص، وإنما فقط لأن الأولى مسيحية، والثانية مسلمة!.

هذه الثقافة ونصائح زميلي في التعامل مع المسيحيين أثرت فيَّ ليوم واحد فقط، حينما زارنا جارنا المسيحي «أبو يوسف» لتهنئتنا بعيد الأضحى، وكان أبي الشيخ الأزهري على علاقة طيبة بكل المسيحيين في بلدنا، ويحضر أفراحهم داخل الكنائس، ويهنئهم بأعيادهم، ولذلك ساهمت تربيته في تحصيني من أفكار زميلي المتطرفة، التي لم تؤثر فيَّ بعد ذلك.

كانت ثقافة الكراهية تسيطر على أبناء بعض الأسر الذين عاصرتهم، ولكن في المقابل كانت غالبية الأسر في مدينتي «مغاغة» ترفض هذه الثقافة، بل كانوا يتعاملون من دون هذا التمييز، فعلى سبيل المثال احتضن بيت جدي لأبي عروسين مسيحيين، أسكنهما في بيته بإيجار لا يُذكر في ذلك الوقت، دون أن يمارس الفرز الطائفي لاختيار من يسكن عنده.

وجاري القس الذي كان زميلي في الدراسة لا يترك عيداً للمسلمين إلا ويزور بيتاً بيتاً في الشارع الذي أسكن فيه لتهنئتنا، وعلمتني أمي أن أنادي جيراننا من النساء بلقب «خالتي»، وكأنها أخت أمي، بغض النظر عن ديانتها، فكنت وما زلت أقول «خالتي أم مينا» و«خالتي أم صفوت»... هكذا تربينا ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن لماذا تحدث جرائم طائفية ضد المسيحيين في المنيا؟!

الإجابة عن هذا السؤال تجعلنا نستدعي التاريخ والذكريات مرة أخرى، ففي التسعينات كانت «الجماعة الإسلامية» في المنيا تستهدف محلات الذهب والمجوهرات التي يملكها مسيحيون، لأهداف اقتصادية تتعلق بسرقة هذه المجوهرات لتمويل عملياتها، بعد فتوى من القيادات باستهداف محلات المسيحيين الذين يساعدون الكنيسة ويمولون نشاطها، بخاصة أن هذه الجماعة وغيرها لم تكن تعتمد في ذلك التوقيت على التمويل الخارجي «الأجنبي»، وإنما كانت تعتمد بالأساس على التمويل الذاتي لشراء الأسلحة.

بالتزامن مع هذه الجرائم ضد المسيحيين وقعت أحداث أخرى طائفية أيضاً اعتمدت على سلاح الشائعات، مثلما حدث في مغاغة من إطلاق شائعة «رش الصلبان» على حجاب المسلمات، بواسطة «اسبراي» بخاخ، يترك رسومات في الملابس على هيئة صلبان، لاستفزاز مشاعر المسلمين وغيرتهم على أعراضهم، لتشتعل المزيد من نيران الفتنة الطائفية.

هذه الأهداف الاقتصادية المغلفة بأغلفة أيديولوجية تغيرت مع مرور الزمن، فها هو تنظيم «داعش» الإرهابي يستهدف المسيحيين أيضاً ولكن لأغراض مختلفة، كشف عن بعضها في العديد من أدبياته، من بينها «قطع النياط في رد عادية الأقباط» لأبي دجانة الخرساني، و«الصارم البتار على رقاب نصارى مصر الكفار» لشخص يدعى «غريب الكنانة»، والإصدار المرئي بعنوان «وقاتلوا المشركين كافة»، وإصدار «رسالة موقعة بالصليب إلى أمة الدماء».

تتلخص هذه الأهداف الداعشية فيما يلي:-

أولاً: محاولة خلق البيئة الطائفية المناسبة لنمو تنظيم «داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية، بعد أن فشل في تحويل سيناء إلى منطقة توحش وصراع، وهي محاولة فاشلة بسبب النسيح الوطني المصري المتماسك.

ثانياً: تحقيق ضجة إعلامية دولية تعيد التنظيم إلى واجهة الأضواء لتعويض تراجعه على الأرض، بعد الخسائر المتتالية التي لحقته في كل من العراق وسورية وليبيا ومصر.

ثالثاً: إشعار المسيحيين في مصر أن بلادهم غير قادرة على تأمينهم، ومحاولة دفعهم للاستقواء بالخارج بحجة حماية الأقليات الدينية، لإحراج النظام السياسي وإدخال الدولة المصرية في حالة صراع مع دول عدة، مما يؤدي لإضعاف النظام المصري، تمهيداً لإدخاله أو جره للدخول في مرحلة «شوكة النكاية والتوحش» حسب خطة «داعش» الفاشلة.

رابعاً: بث الرعب في نفوس المسيحيين، ودفعهم للإذعان لمطالب التنظيم الاقتصادية بدفع الإتاوات «الجزية» أو التهجير القسري، مثلما حدث في الموصل العراقية قبل تحريرها، ومثلما حدث مع بعض أهالي سيناء الذين هُجِّروا إلى الإسماعيلية قبل العملية العسكرية الشاملة.

خامساً: زعزعة الأمن والاستقرار، وإرباك حسابات الأجهزة الأمنية، وتشتيت جهودها بتكثيف حماية وتأمين دور العبادة المسيحية والتي تتخطى 6 آلاف كنيسة تقريباً.

 


مصطفى حمزة