آخذ مسؤولون تربويون الأطر الإدارية والتربوية على سلبيتهم واكتفائهم بالتفرج على احتجاجات التلاميذ، دون أن يستعملوا سلطتهم لحمل المحتجين على الالتحاق بالفصول الدراسية والانضباط للزمن المدرسي

أصحاب هذا الحكم نسوا أن سنوات الرصاص التعليمي الأخيرة جردت المدرس والإداري من كل سلطة، وتركته قاعدا يضرب أسداسا في أخماس، ويراقب وضعا انفلت من يده وقوانين سحبت منه البساط وحولته إلى أداة غير فاعلة، بل إلى أداة مفعول بها، وما صفعة مذكرة العقوبات المختارية الفلكلورية البديلة سوى نقطة من بحر استنزاف رجل القسم والإدارة وإنهاكه وتجريده من كل سلطة ضبطية، وتحويله إلى مجرد كومبارس لا يقدم ولا يؤخر في منطقة تماس فرض عليها فيها دور ملء الفراغ بما يتفق وبما لا يتفق.

نادوا بموت المدرس، وقتلوه رمزيا بخرجات وزراء ومسؤولين تربويين من أعلى مستوى لم تترك وصفا ذميما إلا ألصقته به، فهو المخرف والمتخلف عن الركب التربوي والسادي الذي يتملى بتعذيب تلاميذه، وغير ذلك من الأوصاف الحاطة من القيمة والسلطة التربوية لفئة تحولت إلى موضوع للتندر والضحك، ولما جَدَّ في عالم النوادر والمستملحات.

إن أكثر المدرسين تلظيا بنار الضمير المهني، وأكثرهم تألما بوخز الإحساس بالمسؤولية قدم استقالته منذ زمن، وتحول، أو حولته السياسة الحكومية، إن شئنا الدقة، إلى كائن مبرمج على أداء مهنته بطريقة آلية بغض النظر عن الظروف والحيثيات المحيطة به، ما جعله في وضعية تشبه وضعية المتكلم الأبكم أو المستمع الأصم أو الراقصة المقعدة، ويكفي أن نلقي نظرة خاطفة على طقوس الفصول الدراسية لنقف على حقيقة السلطة التي انْتُقِد المدرس على عدم استعمالها لإرساء الاستقرار في المؤسسات التعليمية زمن الاحتجاجات، مع العلم أن المنتقدين يعرفون تمام المعرفة أن المدرس استنزف واستنفذت طاقته، وصارت أسمى أمانيه مغادرة المؤسسة بعد حصة العمل دون حمل أي مشكل معه إلى البيت، مطبقا مقاربة أمنية بطريقته الخاصة المؤسَّسة على السلم الاجتماعي مع التلاميذ، لينأى بنفسه عن اصطدام يمكن أن يودي بحياته المهنية ويرميه في غيابات الضياع والبطالة، فلا الكفايات ولا بيداغوجيا الإدماج، ولا دينامية الجماعات، ولا طرق التنشيط وأساليبه صارت مركز الاهتمام، بل هو هدف واحد يحصي الدقائق من أجل الظفر به، الانتهاء من الحصص دون حمل هم متابعة قضائية، أو شكاية إلى الجهات المعنية التي لن تتردد في إرسال لجان التحقيق لمساءلته واستنطاقه.

 من أجل إنجاح هذه المقاربة تخلى المدرس عن واجب التربية والحفاظ على الذوق العام، فلم يعد يعنيه أمر تلميذ ثيابه أو تسريحة شعره أو طريقة حلاقته مخلة بالذوق، بل لم يعد قادرا حتى على تحريك لسانه بنصيحة قد تجر عليه الوبال وتغرقه في بحر اتهامات عريضة تصب في خانة الإهانة والتجريح، لاسيما أن الأسر أشبعت بخطابات تحفر عميقا في خندق الحق الذي يراد به باطل، وامتلكت ما يكفي من الحنق على المدرس، ولم يعد ينقصها سوى بعض الشرارة للانفجار في حق من تحولوا من آباء وأمهات من درجة ثانية إلى أعداء حقيقيين.

وفي سبيل إبعاد النفس عن "فضول" قد يحرقه أنزل المدرس يديه وأغمض عينيه، فلم يعد يسائل تلميذه عن دفتر غير منظم، أو غير موجود أصلا، أو عن وسيلة تعليمية غير مُحْضَرَة، أو عن تقصير في إنجاز الواجبات، أو رغبة عن حفظ قاعدة من القواعد، لأنه إن فعل فسيرتكب خرقا للقانون، مهما كان الفعل الذي أقدم عليه، فإخراجه المتعلم وحرمانه التأديبي من الحصة ممنوع، وخصم النقط ممنوع، والاجتهاد في اتخاذ إجراء تربوي ما ممنوع، وحتى إن لجأ إلى أسلوب التوجيه للإدارة التربوية، فسيصطدم مع زميله الإداري الذي له بدوره شؤون تغنيه، حارس عام مكلف بعشرة أقسام، لا يمكنه بأي حال من الأحوال استقبال أكثر من مئة تلميذ على رأس كل ساعة من التلاميذ الموجهين، فدقيقة واحدة لكل تلميذ لن تمكنه حتى من الإنصات لحوالي نصفهم، فكيف له أن يسجل الأسماء ويراسل الآباء ويكتب تبرير السماح بالتحاق التلميذ الموجَّه بقسمه من جديد لزميله في القسم، مع العلم أن مهمات كثيرة أخرى تنتظره وتتطلب منه وصل ساعات العمل وساعاتِ خارج العمل لإنجازها، وهذا من الأسباب المباشرة التي ساهمت في بلقنة المؤسسات التعليمية وخلقت جوا مشحونا وعلاقة اقتناصية بين الطرفين، مع أن كليهما ضحية لواقع ألغى القائمون عليه إكراهاته اللا محدودة من قائمة اهتمامهم، ولم يفكروا في إيجاد الحل المناسب من أجل إرجاع التوازن المفقود الذي من شأن تحقيقه خلق علاقة حميمة بين الطرفين ستلقي بظلالها الإيجابية لا محالة على العملية التعليمية، وتعود بالنفع على الجميع، تلاميذ ومدرسين وإداريين.

صار المدرس، طبقا لمقاربته الأمنية، ينجز دروسه دون أن يبحث عن الأثر، فيكتفي بمن يتجاوبون معه من تلقاء أنفسهم، ويعامل الأغلبية الساحقة مثل جمهور جاء ليتابع فعاليات الدرس في رقعة قسم لا يتعدى لا عبوه في أحسن الظروف رقم العشرة، وإن سولت له نفسه البحث عن تعزيز التشكيلة، فسيتسبب في إيقاظ التنين النائم واستفزاز "الألتراس" للقيام بأعمال الشغب الرادعة كرد فعل على ما يمكن أن تعتبره إحراجا لها.

إن السلطة التربوية هي السلطة الأولى التي يجد الطفل نفسه في أحضانها منذ نعومة أظافره ويرافقها سنين طوالا، فإذا تربى على احترامها وتقديرها والامتثال التربوي، وليس المرضي، لها فسيكون ذلك البذرة الأولى التي ستنمو معه وترافقه في كل سنوات عمره، لتثمر احتراما للسلط الأخرى وللمؤسسات، مما يمكن أن يخلق مواطنا صالحا متشبعا بثقافة المؤسسة، وإن وجد الطريق سالكا للعبث بها سيكون ذلك مقدمة للاستهانة بكل السلط، وما نشاهده اليوم من أعمال إجرامية في حق رجال الأمن من قبل شباب مخدر هو نتيجة حتمية للانفلات الذي نشأ ونما وترعرع في المؤسسة التعليمية قبل أن يخرج منها إلى الشارع بعد أن بلغ أشده، فلا تسألوا المدرس عن سلطة لا يملكها، بل اسألوا أنفسكم كيف ضيعتموها وضيعتموه معها حتى انطبق عليكم المثل العربي "الصيف ضيعت اللبن".



نورالدين الطويليع