في زمن عاشت فيه الأمة الإسلامية انحطاطا كاملا شاملا، دفع الله تعالى إلى سطح التاريخ، انطلاقا من سننه التاريخية وقوانينه السارية، تحالفا قبليا - أيديولوجيا، سُمّي لاحقا بالتحالف "السعودي - الوهابي ".

ومع توالي النكسات والنكبات سقطت تباعا من حواشي الأمة وجوانبها أغلب الأيديولوجيات والتصورات والرؤى التي حاولت الارتفاع بالأمة ودفعها نحو أفق الرقي والتقدم الماديين. ومن ثَم أصبحت الطريق ممهدة مفتوحة أمام دولة وأيديولوجية مدعمتان بأموال قارونية لم يَشْق أحد في "خلقها" أو تنميتها. وأصبحنا أمام "بنية" سياسية - دينية تسعى إلى تصدير فهمها الخاص للسياسة والدين، أهم تمظهراته الفهم العقلاني المتحجر للدين، ونبذ - بل قل تكفير - كل ما عداه، خاصة ما تعلق بما يمكن تسميته بـ "الفهم الروحاني للدين" ، وكذا فهم موغل في التطرف لمفهوم "الجهاد". ومن ثم همّشت إمكانات وتأويلات وفهومات واعدة وغزيرة.

وتمظهر ثانٍ يتجلى في الرفض العقدي الحاد لأي خروج عن الحاكم مهما كان ظالما مستبدا، وخائنا للأمة وقضاياها. فأصبحت هذه الرؤية هي "المرجع" والكلمة الفصل لدى شريحة واسعة من الأمة: نخبة وعامة، في كل شؤون الدين تقريبا. (فلا صيام حتى يظهر الهلال في السعودية، ولا علماء إلا ما خرٍجته مدارس نَجد وجامعاتها، ولا فتوى شرعية إلا ما صدر عن ابن الباز وابن عثيمين وأضرابهما، ولا كتب تستحق القراءة إلا كتب شيخ الإسلام ابن تيمية والشروحات على كتيبات ابن عبد الوهاب ورسائله. ولا قرّاء أجود وأبرع من السديس والشريم...)

ولكن دولب التاريخ دار سريعا سريعا، حتى صُدم الناس ذات صباح بأن اكتشفوا أن هذا "المرجع" و"النموذج" و"القدوة" كان دائما يمارس الإرهاب الفكري، بل وقاتلا، ومتعاونا مع أعداء الأمة.

إن الحوادث الأخيرة، في أيام الله القليلة الأخيرة: إفشال الربيع العربي، والحرب ضد الشعب اليمني المنهوك المنهوب أصلا، ودعم انقلاب تركيا ومحاولة خلخلة اقتصادها لإفشال تجربة شعبية وطنية لاتنسجم مع رغباتها، واحتجاز رئيس دولة لبنان، واغتيال صحفي أمام عدسات الكاميرا العالمية تقريبا... هي في الحقيقة مسامير دقتها سنة الله في نعش ذلك التحالف المشؤوم، والذي بدون انهياره وسقوطه، بعد انفضاح أمره، لن تستطيع الأمة التحرك نحو الأفق الذي ينتظرها باعتبارها الملاذ السياسي والأخلاقي للعالمين.

نعتقد - يقينا - بأن التحالف السعودي - الوهابي عقبة كأداء أمام "ميلاد الإسلام الجديد"، ومستقبل هذا الدين رهين بتسوية هذه العقبة، وانكسار -بل تكسير - هذا القُفل العتيد.

أي طيّ إلهي هذا للتاريخ، وأي تسريع لأحداثه..!

نؤمن نحن بأن "الوهابية" في نهاية التحليل ما هي سوى اجتهاد واتجاه من داخل مدرسة الإسلام الواسعة والمتجددة. هذه المدرسة التي تسع العديد العديد من التفسيرات والتأويلات والقراءات والاجتهادات. من أجل ذلك كان الأسلام صالحا لكل زمان ومكان. إلا أن الوهابية - للأسف - ضيّقت على الأمة واسعا، فجعلت من نفسها القراءة الوحيدة الصحيحة للقرآن والسنة، فاستحقت - في نظرها - أن تكون هي "الفرقة الناجية".

ولكننا لا نرى فيها سوى إمكان واقتراح من بين متعدد، وفوق ذلك هو في نظرنا اقتراح خاطئ. وأكبر أخطائها، بل قل خطاياها، أنها جعلت من مذهبيتها مركبا سهلا لحكام أثبتت الوقائع، وتُثبتُ كل يوم، بأنهم مذمومون عقلا وشرعا.

المطلوب إذن هو أن تتحول المذهبية "الوهابية" من تيار عالمي خطابه الرئيس: النفي والنهي والبراء والتحريم والتبديع والتيئيس إلى "اتجاهات وطنية"، تبحث عن المشترك بين أبناء الوطن الواحد، وتعمل على تنميته بعقلية وإرادة متحررتين من تقديرات السلف واقتراحاتهم، والذين اجتهدوا لزمانهم فأبدعوا وأخطأوا. وقبل ذلك على هذه "الاتجاهات" أن تنفض عنها الولاء غير المشروط لآل سعود.



 

عبد الهادي المهادي