مهم جدا أن يحكي كبارنا ويفصحوا عما في صدورهم قبل مغادرة هذه الدنيا الفانية، مهم جدا، وضروري جدا، أن يخبرنا عن بلدنا من شاركوا يوما ومازالوا في صناعة تاريخه، وتحريك مجرياته، مهم جدا وضروري أن يضعنا هؤلاء الرجال والنساء في صورة الأحداث والوقائع التي حكمت تاريخنا، ورهنت مصيرنا جميعا، وإلى اليوم، جميل جدا وضروري أن يعرفونا بكل، أو جل، أو بعض تاريخنا الحقيقي، فكتابة التاريخ في ديارنا ليست بالأمر الهين، ودونها عقبات وعقبات.

من هنا تأتي أهمية هذا البوح، الذي يقدم عليه من شاركوا وعاينوا وتفاعلوا عن قرب مع أحداث مفصلية شهدتها بلادنا. السؤال الآن، ماذا بعد هذا البوح؟ ماذا بعد أن يقول بعض رجالنا ونسائنا بعضا مما جرى وكان؟ ماذا بعد أن أخرجوا لنا هذا البعض المتاح في أوراق وكتب لنقرأه ونطلع عليه؟ فهؤلاء ليسوا كغيرهم (الأساتذة: عبد الرحمان اليوسفي: أحاديث في ما جرى، محمد اليازغي: سيرة وطن..عبد الله العروي: خواطر الصباح، وأخيرا مذكرات المناضل الكبير محمد بن سعيد آيت يدر، والبقية تأتي).

ماذا بعد أن يتكلم هؤلاء الكبار؟ سؤال الجدوى يطرح نفسه هاهنا بقوة، وإلا فما قيمة كل هذا الجهد إذا كنا لا نستفيد، وإذا كنا سنكرر سلبيات الماضي، ونصر عليها إصرارا؟. إن الذين يبوحون، ويكابدون مشقة القول، إنما يفعلون ذلك بعد تفكير عميق، وبعد أخذ ورد، وبعد عمر ليس بالقصير، وهم حين يقررون الكلام، إنما يفعلون ذلك رغبة في تبليغ رسائل كبرى، وتوصيل دروس عظمى، هي أقرب إلى الوصايا الأخيرة لبلد أحبوه، وأرادوه كبيرا.

إن مذكرات هؤلاء الرجال تقول لنا، من ضمن ما تقول: إن هذا البلد يستحق أن يكون أفضل، وبامتياز متى ما نجح في استلهام دروس الماضي، بصدق وبالشكل الصحيح..إن تاريخنا حافل بمواجع وآلام، لم تكن ضرورية، وحان الوقت لندشن قطيعة حقيقية معها، لاسيما في ما يتعلق بمنطق تدبير السلطة والثروة، وأشكال التداول على الشأن العام..إن الإيمان بالديمقراطية، فكرة وتنزيلا، هو الطريق الأمثل واللائق بهذا البلد وذويه..وإن العنف بكل أشكاله وألوانه لم يكن أسلوبا صالحا لتدبير الخلاف والاختلاف، فقط أضاع علينا زمنا ليس باليسير..إن السلم الاجتماعي مطلب عزيز، وطريقه الأسهل والأضمن هو بناء وطن بالجميع، وللجميع..وفي النهاية إننا نتطلع إلى مغرب جديد، نستحقه ويستحقنا. هذا بعض الجدوى الذي أتصور كبارنا يفكرون فيه وهم يقدمون على كتابة مذكراتهم، أو بعضها. فماذا بعد تحرير هذه المذكرات؟ إنه سؤال الجدوى.


 

ابراهيم أقنسوس