قبل أيام من احتفال لبنان بالذكرى الخامسة والسبعين للاستقلال، جاء المؤتمر الصحافي لسعد الحريري ليؤكّد ان هناك من لا يزال يقف حاجزا في طريق سقوط لبنان وانهياره. لم يفت رئيس الوزراء المكلف التذكير بانه لا يستطيع ان يكون "ام الصبي" الى ما لا نهاية. ليس في استطاعة سياسي لبناني يبحث عن حلول ومخارج، ضمن ما هو معقول ومنطقي وفي اطار احترام الدستور، التكفل وحده بحماية لبنان مهما كان لهذا السياسي من رصيد. لذلك، كان على سعد الحريري وضع الجميع امام مسؤولياتهم. على رأس هؤلاء "حزب الله" الذي لا يريد استيعاب ان مجرد قبول رئيس الوزراء المكلف اشراكه في الحكومة يشكل بحد ذاته مجازفة كبيرة. انّها مجازفة لبنانية من النوع الثقيل.

انّها مجازفة بالاقتصاد اللبناني وبالرصيد الشخصي لسعد الحريري الذي يعرف قبل غيره معنى العقوبات الاميركية الجديدة على ايران وعلى الميليشيات المذهبية التابعة لها. ففي الوقت الذي كان سعد الحريري يعقد مؤتمره الصحافي، أعلنت وزارة الخارجية الاميركية تصنيف نجل حسن نصرالله "إرهابيا عالميا". لم تكتف بذلك. فرضت عقوبات على أربعة اشخاص آخرين (ثلاثة لبنانيين وعراقي) بحجة دعم هؤلاء لانشطة "حزب الله" ومصادر تمويله.

بعض الهدوء والتروي يبدو اكثر من ضروري هذه الايّام. ما يبدو اكثر من ضروري ايضا هو الاقتناع بانّ المطلوب البحث عن وسيلة كي يبقى لبنان محيّدا، الى حدّ ما، في انتظار معرفة آفاق المواجهة الاميركية – الايرانية. من يريد حماية لبنان بالفعل لا يضع العصي في طريق تشكيل حكومة لبنانية. على العكس من ذلك، يعمل من اجل تسهيل هذه المهمّة، اقلّه من اجل حماية النظام المصرفي والاقتصاد بشكل عام. ولكن هل لبنان همّ لدى "حزب الله".

بدل ان يتلهى "حزب الله" بفرض شروط على سعد الحريري، شروط من نوع توزير احد النواب الستّة من "سنّة حزب الله"، يفترض به التفكير في نتائج أي انهيار اقتصادي وفي كيفية تفاديه. ستترتب على مثل هذا الانهيار نتائج مرعبة ستطال جميع اللبنانيين وليس السنّي والمسيحي والدرزي فقط. ستطال الشيعي أيضا. الأكيد ان استيعاب شخص مثل رئيس مجلس النواب نبيه برّي لهذا الواقع جعله متفهّما الى حد بعيد لموقف الرئيس الحريري.

هذا ليس وقت تصفية الحسابات الصغيرة. قالها سعد الحريري بالفم الملآن عندما شدد على انه بدأ يشكك في جدوى الاستمرار في نظرية "ام الصبي". هذه النظرية التي تعني تقديم "تيار المستقبل" كلّ التنازلات المطلوبة منه كونه يريد المحافظة على لبنان، في حين يرفض الآخرون تقديم أي تنازل من ايّ نوع... من اجل لبنان.

تختصر الوضع اللبناني في المرحلة الراهنة كلمة واحدة هي كلمة الفارق. هناك فارق بين مدرستين. مدرسة ثقافة الحياة واسمها الدفاع عن مصالح لبنان ومدرسة أخرى اسمها ثقافة الموت التي تنادي بالتضحية بلبنان من اجل ايران. هذا كلّ ما في الامر. وحده سعد الحريري يصنع الفارق ويجسّد في هذه المرحلة ما تعنيه هذه الكلمة. وحده سعد الحريري يعمل من اجل عدم سقوط لبنان في الفخ الايراني الذي يعمل "حزب الله" من اجل وقوع لبنان فيه. دفع سعد الحريري غاليا رفضه السقوط في يد ايران التي تسعى في السنة 2018 الى تحقيق غزوة اخرى لبيروت والجبل على غرار غزوة أيار – مايو 2008. تسعى هذه المرّة الى استخدام الوسائل السياسية لتحقيق ما تريد تحقيقه في حين لجأت في 2008 الى غزوة عسكرية عندما اجتاحت ميليشيا "حزب الله" بيروت والجبل مستهدفة سعد الحريري ووليد جنبلاط.

ليس الإصرار على توزير نائب من "سنّة حزب الله" سوى الجانب الظاهر من هذه الغزوة الايرانية الجديدة التي كان مفترضا ان تأتي بنتائجها السياسية في الانتخابات النيابية للعام  2009. انتصرت القوى الرافضة للخضوع لارادة "حزب الله" في تلك الانتخابات وذلك بعدما قرّر سعد الحريري المواجهة. استمر في المواجهة عندما ذهب الى ايران في 2010 كرئيس للحكومة. رفض من قلب طهران مطالب إيرانية ثلاثة. كان المطلب الاوّل السماح للايرانيين بدخول لبنان من دون تأشيرة اسوة بايّ مواطن عربي. اما المطلب الثاني فكان توقيع معاهدة دفاعية لبنانية – إيرانية، على غرار تلك التي بين ايران والنظام السوري. كان المطلب الثالث فتح النظام المصرفي اللبناني امام ايران. يبدو تحقيق هذا المطلب، الذي لا تزال ايران متمسّكة به، من رابع المستحيلات في الظروف الراهنة.

ما يفسّر الهجمة المتجددة على سعد الحريري التراجع الايراني في غير منطقة، بما في ذلك اليمن حيث اشتدت معركة الحديدة في ظل موقف بريطاني غامض من الحوثيين (انصار الله).

حسنا، لعبت قضية المواطن السعودي جمال خاشقجي الذي جرت تصفيته في القنصلية التابعة للمملكة في إسطنبول دورا في حجب الاهتمام، اقلّه موقتا، عن قضية أساسية ذات ابعاد إقليمية ودولية هي العقوبات الاميركية على ايران. الأكيد ان الضغط على لبنان لن يفيد ايران في شيء، خصوصا ان لبنان ليس همّا اميركيا. لبنان لم يصبح بعد تابعا لإيران على الرغم من كلّ ما بذلته من اجل فرض وصايتها عليه وعلى الرغم من الغاء الحدود بين سوريا ولبنان كي يشارك "حزب الله" في الحرب على الشعب السوري من منطلق مذهبي بحت.

باختصار شديد، لبنان ليس بدلا عن ضائع وليس مكسر عصا. اذا كانت لإيران مشكلة مع الإدارة الاميركية، فلتبحث عن حلّ لهذه المشكلة وعن مخارج عبر سلطنة عُمان وغير سلطنة عُمان. ما ذنب لبنان اذا كانت إدارة ترامب قررت تمزيق الاتفاق في شأن الملفّ النووي الايراني؟

لن يفيد الانتصار على لبنان ايران في شيء. ان يكون لبنان رهينة إيرانية لن يقدّم ولن يؤخّر في واشنطن. لن يفيد ايران اختراق سنّة لبنان ووضع قسم منهم تحت جناحها. معروف كيف حصل ذلك ومعروف من فرض القانون العجيب الغريب الذي جرت الانتخابات النيابية الأخيرة على أساسه. تحدث سعد الحريري عن ذلك في مؤتمره الصحافي وقال انّ "المرء لا يدفع الفاتورة مرتين".  اذا كانت ايران حريصة كلّ هذا الحرص على السنّة، لماذا لا تتوقف عن اضطهاد مواطنيها السنّة في بلوشستان وجزء من الاحواز، فضلا عن الاكراد لمجرّد انّهم سنّة؟ لماذا ليس مسموحا بناء مسجد سنّي في طهران؟ لماذا لم يدخل وزير سنّي الحكومة الايرانية منذ انتصار "الثورة الإسلامية" في العام 1979؟ ماذا عن طريقة تعامل ايران مع سنّة العراق، وهو تعامل يحتاج شرحه الى اكثر من كتاب واحد؟

هناك لعبة مكشوفة في لبنان. هناك احتقان في طهران. هذا الاحتقان لا تنفسّه حكومة يشكلها "حزب الله" لسعد الحريري... ولا انتصار على لبنان وسنّة لبنان ولا على مسيحييه ولا على دروزه!


خيرالله خيرالله