النتائج التي انتهى إليها مؤتمر باليرمو في إيطاليا لتسوية الأزمة الليبية، الثلاثاء، فاقت الكثير من التوقعات بالنسبة لمصر، حيث قبلت رؤيتها السياسية من غالبية المتحاورين، وجرى تقليص حضور الإسلاميين وممثلي الميلشيات المسلحة وقطر وألغي اللقاء الموسع الخاص بالمجتمع المدني، وعقدت قمة مصغرة للدول المعنية بدون حضور تركيا.

حضور الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى باليرمو منح القاهرة زخما في المؤتمر، وكانت المشاركة في تحضيراته لافتة، ما يؤكد التقدير الإيطالي لدورها، وظهرت القدرات الدبلوماسية والأمنية واضحة في التوجيه والتأثير، وتعديل دفة الكثير من القضايا، وسيصبح باليرمو محطة مهمة في فك بعض ألغاز الأزمة الليبية، واخراجها من الألاعيب التي حاولت بعض الجهات اغراقها فيها، من دون ملامسة العناصر المركزية في الأزمة.

اللطمة التي تعرضت لها قطر وتركيا وحلفاؤهما من الجماعات المؤدلجة، كانت قاسية سياسيا، وسوف تكون لها تداعيات كبيرة قريبا، ويكفي أن وفود وممثلي هؤلاء شعروا بالتهميش في المناقشات التي جرت، وخططهم وترتيباتهم السابقة لخطف المؤتمر باءت بالفشل، ومن الممكن الحديث بعد باليرمو عن مقدمات لاقتناع بضرورة عدم وجود الميلشيات في المشهد ورفض تصدر المتطرفين له.

التفاعل الذي ظهر في تحركات مصر، قبل وفي أثناء المؤتمر، حقق أغراضه القريبة، وأكد أن إمكانية التغيير تأتي بالانخراط وليس بالانكماش، فتجربة الدور المصري النشط في باليرمو يمكن توظيفه في كيفية ضبط الدفة لصالحك، وخلط حسابات الخصوم وارباك حركتهم. فعندما تمتلك رؤية واضحة وخبرة كافية وتوجها واعيا والماما بالتفاصيل والتعقيدات المحلية والإقليمية والدولية، سوف تحرز جملة من الأهداف في شباك الآخرين.

خيبة الأمل التي أبداها نائب الرئيس التركي فؤاد أقطاي، كشفت جانبا من التصورات السلبية التي عولت عليها بلاده، لمزيد من الانخراط في الأزمة الليبية لتبقى على ما هي عليه، لكن الهدف الذي دخل مرمى أنقرة من خلال باليرمو لن يكفي لوقف ممارساتها السافرة، ودعمها لميليشيات تسعى لإطالة عمر الأزمة، فقد استشعرت بهزيمة سياسية سوف تتجاوز روافدها حدود الساحة الليبية.

ملامح الهزيمة التي لحقت بأنقرة وحلفائها المؤدلجين، تتخطى الخسائر المعنوية، فممثلها أقطاي شعر كأنه ضيف شرف غير مرحب به، وليس طرفا معنيا بحل الأزمة الليبية، كما يجري تصويرها إعلاميا، وأصبحت ممارسات بلاده الغامضة معروفة لكثيرين، والدليل غيابه عن القمة المصغرة التي حضرها رؤساء وزعماء وممثلين عن قوى عدة.

مع أن المؤتمر واجهته عثرات مختلفة لصياغة بيان ختامي محدد وشامل، لكن إذا أردنا حصر المزايا العامة التي تحققت في باليرمو يمكن التوقف عند مجموعة من المحددات النوعية، سوف تكون لها ارتدادات سياسية وأمنية واجتماعية في ليبيا الفترة المقبلة.

الأول: التأكد من أن المشير خليفة حفتر قائد الجيش الليبي الوطني، أهم رقم في المعادلة الليبية الداخلية، والجهود التي بذلت لاثنائه عن عدم حضور المؤتمر تكشف طبيعة دوره حاليا ومستقبلا. كما أن الطريقة التي عومل بها من قبل المسؤولين في روما ومحاولات استرضائه تعزز مكانته.

الثاني: تعظيم الترتيبات الأمنية على أسس نظامية، بمعنى تنحية الخيار الذي كان يروج له البعض لفترة طويلة، ويطمح إلى تبني توازنات تمنح فرصة لتسريب عناصر من الميلشيات ضمن القوات العسكرية والشرطية الرسمية، المنوط بها حفظ الأمن والدفاع عن البلاد، ما يقلل من أهمية جهود الاعتماد على المؤسسات الوطنية المحترفة والمدربة.

الثالث: استمرار عملية توحيد المؤسسة العسكرية في العهدة المصرية، واخفاق محاولات القوى التي سعت إلى وضعها في جعبة جهات مشبوهة، بهدف تعطيلها ومنع تقدمها نحو الوصول إلى غاياتها النهائية في الحفاظ على أمن واستقرار ليبيا، ما يعرقل جهود الكتائب المسلحة والمتشددين لزيادة أمد الاستفادة من السيولة وتكريس أمر واقع يصعب تغييره.

الرابع: تهيئة البيئة الليبية أولا أهم من التعجيل بإجراء الانتخابات أو الإيحاء بأن هناك استقرارا شكليا، فقد وصلت دوائر كثيرة إلى قناعة بأن التسريع بخطوة الانتخابات في أجواء غير مواتية سوف يفرز تسوية سياسية مشوهة، تتغذى عليها جماعات راغبة في الاستحواذ على مفاصل الأمور، من دون اعتبار لتوازنات القوى الحقيقية على الأرض. وهو من أهم مخرجات باليرمو التي تحاشت تكرار أخطاء مؤتمر باريس في مايو الماضي، الذي ضرب مواعيد للإصلاحات الدستورية والانتخابات قبل أن تكون هناك قواعد متينة تسمح بالتخلص من العقبات، وامتلاك قدرة على التمكين والتنفيذ.

الخامس: العمل على توفير ضمانات أمنية وسياسية تسمح بتحريك القواعد الحالية في الاتجاه الصحيح، لأن عدم توافرها أدى إلى انسداد على مستويات متعددة، وقاد إلى خلل في مبادرات التسوية المتعجلة التي حاول البعض تسويقها بزعم أنها رسالة تحمل معاني الجدية، بينما في باطنها العذاب، فأي انتخابات تنجح في أجواء تسيطر عليها الميلشيات؟ وكيف يضمن المواطنون حرية التصويت؟ وهل يملك الفائزون قدرة على مزاولة مهامهم؟

كل هذه الأسئلة وغيرها دارت في ذهن الوسيط الإيطالي، الذي وجد تفاهما وانسجاما كبيرا مع الرؤية المصرية، وهي تؤكد دوما على أهمية وحدة وأمن واستقرار ليبيا، وخيراتها وثرواتها لمواطنيها وحدهم، الأمر الذي يتحقق مع التخلص من الإرهابيين ورعاتهم في الداخل والخارج.

الذهاب المصري إلى باليرمو بهذ الحجم لم يكن ممكنا ما لم يحصل القائمون على الملف الليبي على ضمانات بأن هناك تأييدا من قبل المجتمع الدولي للتحركات التي حدد ملامحها مبكرا الرئيس السيسي، وأن الأفكار التي يحملها تجد دعما من القوى الساعية لوضع حد للأزمة.

التقدم الظاهر الذي حدث في المؤتمر يكمن في تزايد القبول الغربي بفكرة الربط بين الإرهاب ومكافحة الهجرة غير الشرعية، وهذا ما قطعت فيه مصر شوطا كبيرا، لأنه من المفاتيح المهمة لعلاج أزمات تعاني منها بعض الدول الأوروبية، ومن الأدوات التي تساعد في خلخلة تحكم الكتائب المسلحة في بعض المناطق، ويأتي التحول المعتبر من منح قضية الإرهاب أولوية باعتبارها زاوية ترتكن عليها أطراف مختلفة، وتجد فيها ملاذا لإطالة الأزمة في ليبيا.

محمد أبو الفضل