قد يُصبح “باب السُّفرَاء“ في مدينة الرباط أشهر من كل الأبواب التاريخية بالمغرب، يَعرفه الناس ويُعَرِّفون به أكثر من “باب منصور لعْلج“ في مكناس أحد أكبر الأبواب وأجملها في العالم و“باب أبي الجُنود“ المشهور بفاس، وقد يُصبح أيضا مكانا للزيارة في المُستقبل لأجيال بكاملها.

لم أكن أعرفُ أن هناك بابا اسمه “بابَ السُّفرَاء“ في الرباط، على الرغم من اعتصامي في الرباط مرارًا كيساري مغربي سواء من أجل العراق أو فلسطين في زمن فائت؛ لكن حُصولي على “شهادة عُليا“ جعَلتني أتردَّدَ عليه في السنتين الأخيرتين مُطالبا بالترقية وتغيير الإطار كباقي زملائي وزميلاتي من حاملي الشهادات العليا في المغرب.. في كل مرَّة أمر أمام الباب سالف الذكر يترك بداخلي جُروحا غائرة أكبر من تلك التي سبقتها، يقول لي صاحبي من حاملي الشهادات العليا والألم يعتصر قلبه:

-“والله لو أنني كنت أعرف أن بابا مثل هذا ينتظرني يُذلوني فيه، ما قرأت"..

هذا البَابُ، جسْرٌ مَمنوعٌ في وَجه العُبُور

هذا البابُ، طريق مفتوح نحْوَ الإعْصار

نخيل شارع محمد الخامس بالرباط على بُعْد عَشرات الأمتار منه شاخ، أصبح طاعنا في السِّن ولم يعُد قادرًا على الوقوف أو الإدلاء بأي شهادة.. كل يَوم فيه كرٌّ وفرٌّ، لم يعُد مكانا للأماني الكبيرة أو حتى الصَّغيرة، خُطوَة ناقصة فيه قد تفقِدُك توازن الساقين أو تتخلى عنك أجنحة الرّيح، وتصبح على مَرمى حَجَر من فولاذ خوذات معدنية وأحذية ثقيلة أو تداهِم جُمجُمتك كل أحْجَام الهَرَاوات.

كلّ نهاية يَوم تفقد فيه شعَارات رَمادَها، والناس زاحفة نحو المَساء.

الشمسُ تبخُل على الجُموع بالشروق، كل الأبواب فيه مُوصدة، ودَمُنا يسيل على “باب السُّفرَاء"..

لهم قطر الندَى والسيارات الفارهة التي هي من دَمِنا تمُرُّ بجُنون نكاية فينا، ولنا ألوَان السَّراب.

لا تقل لي: “أنا قارئ يا صاحُ بَعْد اليَوم“، لو قرأت لكانت لي قيمَة وكان لي مَعْنىً ها هُنا.

(ما أنا بقارئ) يقول لي أستاذ خمْسيني من جَنوب الرُّوح

اقرَأ رَمَاد حُروفك في صَمْت، وأنت في الطريق إلى مزرعَة الشوْك

أمامك أسوارٌ وأشجَار صُمٌّ بُكم ثم بَابٌ وبَابَان، قبل أن تصل “بَابَ السُّفراء“، واسأل بَختك.

هناك سيقول لك سُفرَاءُ، لا كالسُّفراء، بخوذات الفولاذ:

"أنت مَمنوع من عُبُور الجسْر، ارجَع من حيث أتيت، فالبَاب مُفخَّخ بكل المَشانِق“.

يقول لهم كبيرهُم: أوْصِدُوا تلك البَاب، لأنها مَحظورَة على الفاتحين الجُدُد، ولنا تصاريحٌ بسَحْل النوارس التي يحْمِل معَها “شهاداتٌ عُليا“ في الطرُقات..

البابُ مُوصَد، البَاب مَرْصُودٌ للأسَاطير والرُّؤيَا من بَعيد، ونصبٌ تذكاري للزيارة..

في الجانب الآخر وعلى الشاطئ، يوجد بَحْرٌ هَادر أصَمّ

للرِّباط جَناحَان وزمَنان، ولي زمَني

لا تضايقني الأبوَاب المُغلقة، مَلاذي شهَادة ميلادي

وعلى بُعْد أمتار مني، حَمامة تُسَابق ظلها بجناح مكسُور

كل يَوم تخرجُ علينا الحَقيقة شبه عَارية

نسرعُ الخطو، تتبعنا الخيْل المُسوَّمة

مُبطئين كرًّا وفرًّا بين إيّاب وذهَاب، ترفع العِصيُّ، فإذا هي ثعَابين تسعى

سرج رُكبَتاك يا صديقي، وَحْدَهُا من ينقذاك من خُذرُوف المِعْصَرة

فوق سَماء رُؤوسنا مَطرٌ وتحت أقدامنا جَمْرٌ، والدُّمُوع المُنهمِرة مضيعَة

تقول لي رفيقتي في الجَرْي: انظر هنا، لا مكان رَخوٌ في عَظمَة الرأس..

يقول لي صاحبي: أجْري نعَم ما استطعت، لكن لن أهْزَم حتى النصر..

وأقول أنا: يا “حَسَّان، افتح لي “أبواب السُّفرَاء“ أو هات لي بمفاتيحك..

“أبواب السُّفرَاء“ مَزَّقها الرّيح، يُخطئ “الترَام“ مَوعده بعد وقت الزوال، يمضي الليل ويطلع النهَار ومعَه اسمٌ جَريح آخر. لا أخبَارُ في جَرائد النهَار سوى الغبار يا صاحبي.

ها قد عبرنا الأبْوَاب، دَخان السيارات يابسٌ لايزال عالقا في حَناجرنا، وهي تردِّد نصوصًا سرديّة وشعَارات، ينتهى نشيدُنا تحت نقيع الانتظار ثم نمضي، ويبقي للأصوات صداهَا المَوسميّ، ولعصيّ الخَيْزران مَواويل أُخر، وهَراواتُ تُحَاصر ظِلال النخيل في أكبر شوارع الرباط..

 

إدريس الواغيش