اللغة السياسية الكويتية والاماراتية في التعاطي مع العراق ودية جداً، ظهر ذلك بشكل جلي خلال الزيارة التي نفذها الرئيس العراقي برهم صالح الى الدولتين، والواقع ان اللغة الودية قد تطغى خلال زيارات محتملة لصالح خلال الايام المقبلة الى المملكة العربية السعودية والاردن وايران، وربما تركيا ايضاً.

ومعنى ان جيران العراق يتفهمون طبيعة المرحلة الحساسة التي يمر بها البلد، ذلك معطى غاية في الاهمية، يجب ان يطرح في السياق السياسي للحكومة العراقية الجديدة، ليتم على اساسه بناء ستراتيجيات ثابتة للعلاقات الخارجية، فالعلاقة مع الجيران ليست بلا ملفات شائكة وتاريخ مثقل، لكن ثمة ادراك ينمو بان هذه المنطقة يجب ان تعيد بناء قواعد علاقاتها لمواجهة تحديات المستقبل، وهي بكل الاحوال لاتقل خطورة عن تحديات الماضي.

كان لافتاً ان يتحدث رئيس العراق للمرة الاولى عن ان بغداد ليست بمعرض الوساطة بين ايران والولايات المتحدة، ونضيف انها (بغداد) ليست بمعرض الوساطة بين ايران وخصومها الاقليميين ايضاً، وهذه قاعدة سليمة فيما يخص الشأن العراقي تحديداً، ولقطع الجدل الداخلي والمقارنات التي تتحدث عن قدرة العراق على ادارة هذا النوع من الوساطات الاقليمية والدولية استناداً الى النموذج العماني. ومع ان العراق يسعى حسب رؤسائه الى احداث التوازن في علاقاته الاقليمية والدولية، الا ان نقطة تمركزه الحالية، مقارنة بالنقطة التي تتمركز فيها دولة اختبرت النأي عن الصراعات كسلطنة عمان، لاتسمح له باداء دور ريادي في الازمات الاقليمية الطاحنة، ولا على مستوى علاقات احد جيرانه مع اقطاب دولية كبرى. واقع الحال ان العراق بوضع دفاعي على صعيد العلاقة مع جيرانه، وهذا التموضع الخاطئ، خلقته سياسات عراقية مرتبكة قبل وبعد 2003، وطبيعة التدخلات الخارجية في شؤونه، بل وتحوله مراراً الى ساحة ومقياس لصراع القطبية الاقليمية قبل ان يتراجع لصالح بؤر ازمات اخرى في المنطقة. أن يضع صاحب القرار نقطة مركزية في علاقاته الخارجية، وفي الحالة العراقية تكون هذه النقطة في الغالب ايران، وفي درجة اقل الولايات المتحدة الاميركية، فانه يقطع ابتداء كل الفرص المتاحة لبناء التوازن في علاقاته.

والتوازن في العلاقات الخارجية ليس معيارا كمياً، وهو لايعني مطلقاً ان يوضع ميزان تقاس على اساسه الخطوات السياسية على درجات ردود فعل كل اللاعبين الاقليميين والدوليين حسب تأثيرهم في الوضع العراقي، فلو استمر العراق بفعل ذلك لن يتاح له ابداً تجاوز دكة الاحتياط في حلبة النزال متعددة اللاعبين في نزالات الملاكمة الاستعراضية الشهيرة، بل لن يتمكن من حماية نفسه حتى من لكمات وكدمات وطعنات قد تصله على دكته المستسلمة، بل ان التوازن، يقاس بقدرة صانعي القرار على ابرام الصفقات مع الجميع، وبما يتيح هامشاً للقبول بنقطة التمركز الجديدة التي تتيح مواقف عراقية قد لاترضي تماماً الجميع، ولكنها لا تستهدف طرفاً على حساب الاطراف الاخرى.

في هذا السياق يمكن فهم ان العراق ليس معنياً بالوساطة بين ايران والمنطقة او مع واشنطن، ليس فقط لان ايران ليست بمعرض قبول وساطة عراقية رغم ان مصالحها قد تستدعي ذلك في مراحل مقبلة، بل لان العديد من المعطيات والخطوات والاحداث يجب ان تتغير قبل يعود العراق الى موقعه كلاعب وليس ملعباً في الشرق الاوسط، لتعود بعودته التوازنات الطبيعية التاريخية بين الصفائح السياسية المتضاربة حوله.

القدرة على عقد الصفقة العراقية الكبرى مع دول المنطقة، لاترتبط فقط بمدى استعداد تلك الدول مجتمعة للاعتراف بأن ضعف العراق أخطر من قوته، وان غيابه عن المشهد يمثل اضراراً بحتميات التوازن التاريخية، بل يشترط ابتداء فهماً عميقاً لدى الاوساط والنخب العراقية السياسية والثقافية لضرورة ابرام هذه الصفقة (اذا صح المصطلح)، وضرورة ان تنال زخم دعم داخلي كبير، وان لايتم اخضاعها الى نظام المزايدات الداخلي الذي لايمثل في السوق الاقليمي أكثر من بزار صغير لايتجاوز تأثير صفقاته حدود مصالح دكاكين احزابه.

مشرق عباس