الحلقة الثانية:

تصميم عام:

1.تقديم عام

2.في معنى المجتمع

3.الفرد والفردانية

4.في معنى الإبداع

5.الإبداع كفعل مجتمعي

6.تأثير النزعة الفردانية على الإبداع المجتمعي.

7. اشتغال مجتمع الإبداع، وجدلية المصلحة العامة، والمصلحة الخاصة.

1.تقديم عام:

في مجتمع المعرفة الذي نعيش فيه، وهو مؤطر بالأطروحات الكبرى للعولمة، التي نجهل عنها أكثر مما نعرف، لا مكان للفردانية، في المجتمع الواحد، ولا مكان للدول الصغرى، إلا إذا اتحدت واجتمعت على تشكيل اقتصاديات كبرى، بأسواق كبرى، وطموح بأعناق زرافاتٍ.

إن الفردانية عطبٌ نفسي اجتماعي يصيب الأفراد، فينكمشون وينكفئون على نفوسهم، وتصيب الدول فتتشرذم، وتذهب ريحها.

سيشتغل هذا العرض على هذه الفردانية، كعائق للإبداع المجتمعي، في اتجاه التأسيس للنقلة التي تنتظر مجتمعاتنا العربية..ولا يمكن أن تنتظر إلى ما لا نهاية، لأن العالم العولمي لا ينتظرنا.

5.الإبداع باعتباره فعلا مجتمعيا:

لنقف على الدور المهم، بل الحيوي جدا، الذي يكتسيه الإبداع، باعتباره فعلا مجتمعيا، علينا أن نتوقف قليلا عند التقليد، لنعرف فداحة فُشُوِّه في جميع المجتمعات، حتى الغربية المتحضرة.

أقول هذا للتأسيس لتعامل فريد ومميز جدا مع العقول المبدعة، وهي قليلة جدا.

يجب أن نتعامل معها كالظمآن في الصحراء، وليس له إلا القليل من الماء، ولا عين أو بئر في الأفق، ذلك لأن سُلوك أغلب الناس يتأسس على تقليد الآخرين، ومن هنا قوةُ تأثير ما يُسمى في علم النفس الاجتماعي "البُرهان الاجتماعي"، الذي نظر له طويلا أحد أقطاب هذا التخصص، العالم الأميركي "روبرت.ب. سيالديني"

9 أغلبُ الناسِ مقلدون، المبدعون قلة، ومن هنا تأثرُّنا في اختياراتنا، في مجالات التجارة، والأعمال، وغيرهما، بسلوكِ الأغلبية.

بهذا نفَعِّل، ما يسميه علمُ نفس الاجتماعي: الإقناع.

لقد بينت الدراسات في مجال علم النفس الاجتماعي أن:

"95 في المائة من الناس مقلدون، و5 في المائة فقط مبدعون.

يقتنع الناس بأفعال الآخرين أكثر من أي برهان نستطيع أن نقدمه لهم".

10

إن الانسياق للأغلبية، دائما، قد يتضمن أحيانا أخطارا بالنسبة للآخر، واليكم الأمثلة:

تفاجأ في الشارع بشخص مُتمدد على الأرض، لطارئ صحي، وهو، طبعا، بحاجة إلى من يطلُب له الإسعافَ. لا أحدَ يلتفت إليه، لماذا؟ لأن العابرين ما لم يروْا تجَمهُرا قلِقا للناس، يظنون ألا شيء يحتاجُ إلى الاهتمام.

إذا تعرضت لمثل هذه التجربة، فخاطب شخصا مُحددا:

أنت يا سيدي اطلب لي إسعافا؛ هكذا تجعله يتخلص من قوة البرهان الاجتماعي ويُفَعِّل مبدأَ الالتزام.

هل حقا تكون آمنا حينما تكون وسط الحشود؟.

لا، لأن البرهان الاجتماعي يُحدث لامبالاةٍ واسعة بين المشاهدين، نتيجة لـ"الجهل التعددي"..

لا أحد يبْدو عليه القلقُ لما يحدُث لأحدهم، وعليه فلا داعِي للقلق.

يُطل سكان العمارة على ما يقع في الشارع من اعتداء على شابة، ولا أحد يتصل بالأمن. يكتفي الناس بالفُرجة، وفي أحسن الأحوال يعتقد كل واحد أن شخْصا ما يكون قد اتصل بالأمن، وفي الواقع لا أحد اتصل.

هذان المثالان لجبروت التقليد، وهما مما أورده "سيالديني"، بعد سنوات من الرصد الميداني لسلوك المجتمع الأمريكي، يطرحان سؤال مدى فداحة موت الإبداع في ما يتعلق بالحياة الاجتماعية.

ومن هنا الحديث عن مقولة "مجتمع القطيع" في الدراسات النفسية الاجتماعية، حيث يتشرنق الفرد، متلحفا بفردانيته، ليستنسخ نفس سلوك الآخرين، دون أدنى مجهود حتى لفهم هذا السلوك، كمقدمة لتعديله، إن كان بحاجة إلى ذلك.

في تجربة لاختبار مدى تأثير السلطة، كمؤسسة إكراه وإجبار، على سلوك معين، يصدر عن الفرد بميكانيكية صارمة، دون أدنى ذرة تفكير، طلب الطبيب المشارك في التجربة من الممرضة (ولا علم لها بالتجربة) أن تضع بعض قطرات العين في شرج المريض المستلقي على بطنه أمامها (مشارك في التجربة) ففعلت دون أن يرف لها جفن.

يُرجع "سيالديني" هذا السلوك الميكانيكي، اللامفكر فيه إطلاقا، إلى ما تمثله سلطة الطبيب بالنسبة للممرضة.

هي تعرف أنها قطرات للعيون، لكن لم يكن أمامها إلا أن تتصرف بآلية.

ماذا يعني الإبداع للمجتمع؟

يعني ما تعنيه الحضارة، بإطلاق، فلولا رغبة بعض العقول في شق طرق أخرى للفكر، صعبة، غير المعهودة وهي سهلة ومغرية، لظلت المجتمعات البشرية في فجر تاريخها، وحتى ما قبل التاريخ.

يسري هذا على كل مفردات العمران البشري، على حد عبارة ابن خلدون.

إن الفرد حينما تنازل عن حريته، وفق منظور فلاسفة العقد الاجتماعي، فإنه وقع عقد توكيل للمجتمع، والدولة، كي تحقق شرط المدنية والتقدم والحضارة، وإلا فلماذا صهر فردانيته في بوثقة المجتمع؟.

لكن هذه الدولة، في حد ذاتها، والتي تسمو على الأفراد، لا يمكن أن تحقق أي نسبة من شروط الحضارة إلا بهؤلاء الأفراد ومعهم، شريطة تجاوز سلبيتهم وجمودهم في وضع مجتمع الفطرة الذي تحدثنا عنه.

نؤسس على كل هذا النتيجة الآتية:

إن الإبداع كفعل مجتمعي هو الذي يعطي للدولة، وللمجتمع، المدلول الحقيقي، لأنه هو الغرض الأصلي من وجودها.

وكدت أقول: إن العقد الاجتماعي هو عقد من أجل الإبداع.

وبالعبارة الخلدونية: الشرط في العمران والحضارة، ومفارقة البداوة، هو الإبداع. حتى وإن لم يستعمل لفظ الإبداع، فقد عناه، وهو يقدم أطروحته حول "العصبية والدولة".

كيف ننزل كل هذا ميدانيا؟

علينا أولا أن نقتنع بأن الإبداع في متناول كل واحد منا، مهما يكن الدور الذي يوكل له في المجتمع.

لنزيل أيضا الهيبة على عبارة "الإبداع المجتمعي"، لأنها ارتبطت في أذهاننا بالأعمال الكبرى لفنانين، أو مفكرين، أو معماريين كبار، حتى بدا لنا، ورددنا كثيرا، مقولة: النسج على منوال سبق.

إن الحضارة، كما أنتجتها الأعمال، والأفكار الكبرى، على مر تاريخها، ساهمت فيها أعمال وأفكار في منتهى البساطة، كما بدت لأصحابها.

وعليه فلا يُخلق المجتمع المبدع – أو ينبعث – إلا من ثقة كل فرد فيه في كونه، مهما يكن موقعه، قادرا على مساءلة روتينه اليومي، ليفتح فيه نوافذ للتجديد البناء.

وعلى قدر هذه الثقة في النفس، معززة بثقة الدولة في أفرادها، تكون درجة الانخراط في بناء المجتمع المبدع.

ثقة الدولة في أفرادها، تنتج الحرية، ولا إبداع بدون حرية.

6.تأثير النزعة الفردانية على الإبداع المجتمعي:

يجهد الفرد نفسه من أجل التميز، والاستفادة من حقوقه وامتيازاته، لكن انكفاءه على نفسه، مؤمنا بمصلحته فقط، يسلمه للعزلة والضعف، وعدم القدرة على الفعل.

لهذا السبب فإن المجتمعات المعاصرة تعيش نوعا من المفارقة:

فمن جهة تُمجد الخصوصيات الفردية، وتعتبرها ذات استقلالية فاعلة، ومن جهة أخرى تنظر إلى الفردانية على أنها عائق اجتماعي، إن لم تكن مرضا مزمنا رافق المجتمع منذ تشكله.

إنها تنظر إلى الفردانية على أنها أنانية، وانكماش على النفس، وتفكيك للرابط الاجتماعي.

"إن الأزمة ليست أزمة الفرد، بل أزمة السياسة التي تقف عاجزة عن فهم فردانية المجتمع المتنامية"

11

مرة أخرى يدعونا التقيد بالموضوع إلى القفز على هذا النقاش العميق بين المنظرين للفردانية، باعتبارها تدفع صوب تحقيق الفرد لذاته، ومن يعتبرونها عائقا لتطور المجتمع.

وهذا الصراع، كما هو واضح، تتحكم فيه عوامل متعددة، منها ما هو سياسي محض – تدافع بين أحزاب اليسار وأحزاب اليمين- وما هو اقتصادي، وما هو ثقافي.

وماذا عن مجتمعنا العربي؟

يرى حازم صاغية أن "المنطقة العربية مازالت لم تحقق فردانيتها، بل إنها تابعة للجماعة بمختلف أشكالها – الدين، العائلة، المجتمع، القبيلة، والحزب – وأن هذه المجموعات لها الحق الكامل في التدخل في حياته، ومعارضته إن كانت خياراته تخالف المعتقدات والأعراف الاجتماعية"؛ كما يرى أن "غياب الفردانية في البلدان العربية ساعد على تأخر مشروع الحداثة، بسبب خضوع المواطن العربي للكثير من القوانين الاجتماعية، التي تقيده وتحد من رغبته الشخصية".

12

المطلب الفرداني هنا واضح، وهذا ناجم عن عدم استيعاب النقاش المحتد في المجتمعات الغربية، حول إشكالية الفردانية، وما كان ليحتد لولا ما أصبحت تشكله من عائق فعلي لتطور المجتمع، وتأدية الدولة لدورها، وفق المتعاقد حوله مع المواطنين.

ويدلي حازم صاغية بأسبقية الفردانية في الثقافة العربية، ممثِّلا بظاهرة الشعراء الصعاليك، الذين دفعتهم فردانيتهم إلى اختيار الهامش القبلي للعيش فيه، هروبا من الأعراف والتقاليد.

ومرة أخرى يعبر عن قصور الرؤيا، لأن الظاهرة محدودة جدا، ولا فردانية فيها، ما دامت القبيلة نفسها غالبا ما كانت تعيش على السلب والنهب، فبماذا تميز الصعاليك عن القبيلة؟.

طبعا ليس مفروضا على المجتمعات العربية أن تستنسخ نفس المسار التطوري الذي سارت فيه المجتمعات الغربية، اعتبارا للفوارق الجوهرية.

هذا في ما ثبت صلاحه، فكيف نستنسخ حتى الفردانية، وهي عندهم نكوص مجتمعي، ونقول إنها مقدمة أو شرط لمجتمع الحداثة.

ومهما يكن فإن مجتمعنا العربي يتطور وفق أنساقه الداخلية الخالصة له، ولمن أراد أن يتوسع في هذا الجانب ما عليه سوى الرجوع إلى المشروع الفكري للدكتور محمد عابد الجابري، الذي فكك بنية العقل العربي إلى مفاصلها الكبرى:

العقل البياني، العقل البرهاني، العقل العرفاني.

مع ما يوجد بين هذه العقول كلها من دينامية جدلية.

إن الفردانية قائمة في مجتمعنا العربي، وهي تختلف عن فردانية المجتمعات الغربية الديمقراطية، التي تولدت عن تطور مجتمعي وسياسي له ظروفه الخاصة وشروطه.

فردانيتنا ما هي إلا فردانية نشاز، شذت على أطرنا الاجتماعية، وعلى رأسها الإطار الديني.

كأننا لم نفلح، ونحن نقلد المجتمعات الغربية، إلا في استنساخ الفردانية.

والفردانية، إن كانت في المجتمعات الغربية، وليدة الحرية والديمقراطية، مما لا يجعلها مثبطة لتطور المجتمع، حسب رأي دعاتها، فإنها في مجتمعاتنا العربية سلاح دمار شامل.

إنها بالنسبة لجسدنا العربي الإسلامي، كالمرض الغريب الذي لا نعرف له تشخيصا ولا دواء.

وإن كنا سنتحدث عن الإبداع مع هذا النوع من الفردانية الورمية الانتهازية، فهو الإبداع في اللاإبداع:

الشلل التام، واعتبار الدولة بقرة حلوبا، أو دجاجة تبيض ذهبا.

لا تدافُعَ في غير هذا خصوصا في مجتمعات الوفرة.

8. اشتغال مجتمع الإبداع، وجدلية المصلحة العامة والمصلحة الخاصة:

يشتغل مجتمع الإبداع ضمن سلم للقيم، يخدم المشروع المجتمعي، التنموي، المتوافق عليه، حتى يشعر كل مواطن بأنه منخرط فيه، ومسؤول عن نجاحه، ما دام قد ساهم في بنائه، عبر المجالس المنتخبة.

فشل مثل هذه المشاريع، على مستوى عالمنا العربي، مرده إلى أمرين:

1.إما كون الدولة تشتغل بدون مشروع، وبدون إستراتيجيات ومخططات دقيقة للتنزيل.

2.وإما كونها بمشروع، وإستراتيجيات، لكنها منزلة من فوق، بحيث لا تلامس الحاجيات الحقيقية للوطن والمواطن.

ولنا اليوم، مع كامل الأسف، المثال – صارخا- في الدول التي آل بها الأمر إلى الاقتراب من الفشل التام.

ولو بحثنا في كل مفردات الفشل، بالنسبة لهذه الدول، لوجدنا أن قيم الحوار، التساكن، التعايش، قبول الاختلاف، قبول الآخر، العمل، الواجب وغيرها، كلها تعطلت، لتحل محلها قيم الفردانية، الأنانية، الانتهازية، التطرف، الإرهاب وغيرها.

مع كامل الأسف أننا لا نتعلم إلا بالصدمات، كما يقول المرحوم الدكتور المهدي المنجرة، الذي نظر منذ سنين لمجتمع المعرفة القادم، لكن ولا دولة عربية اهتمت بندائه، وهو من أساتذة علم المستقبليات في العالم.

مجتمع المعرفة الذي جاء في ركاب العولمة، مجتمع قائم على مدى وفرة المادة الرمادية (الذكاء) قبل الثروة المادية.

ولنا المثال في اليابان الفقيرة من حيث الموارد الطبيعية، لكن ثروتها الرمادية ومواردها البشرية لا تضاهى.

إن الاستثمار الأساسي في مجتمع المعرفة العالمي الذي نعيش فيه، هو الاستثمار في التربية والتعليم.

في تأسيس البرامج والمناهج المدرسية على الحاجيات التنموية الحقيقية.

لم يعد بين يدينا غير مشتل التلاميذ والطلبة، لنُحدث النقلة المجتمعية.

من مجتمع القطيع والتقليد إلى مجتمع الإبداع، وهو حتما بأعناق، تنظر عاليا وبعيدا.

لا يمكن أن نواصل الاندفاع بقوة صوب الجدار، أو الهاوية.

يجب أن نبدأ النقلة المجتمعية، بدون ضجيج.

يجب أن نثق في أنفسنا، وفي دورنا، ضمن المجتمع، مهما يكن ضئيلا.

إننا في مجال الحفريات نعثر على أشياء في غاية البساطة، لكن العلماء يفسرون بها حضاراتٍ سادت ثم بادت.

فلماذا لا يثق الواحد منا اليوم في دوره، وهو طالب أو خريج جامعة، أو موظف.

استحضروا مبدعي فجر البشرية، الذين عمدوا إلى صخور ومغارات، وزينوها برسومات، هي اليوم عند علماء الحفريات كخزانات ثرية.

لا إبداع ضئيلا، في تحقيق الحضارة، لكلٍّ وزنه.

انتهى

المصادر والمراجع:

9.روبرت.ب.سيالديني.التأثير علم نفس الإقناعROBERT. B. CIALDINI

10..التأثير –علم نفس الإقناع.ص: 139K.ROBART

11.Gérémy canohttp: //www.slate.fr/tribune/81091/etat-face-individualime

12.فؤاد صاغية.مأزق الفرد في الشرق الأوسط.عن:http: //www.noonpost.org/content/21664

 

 

رمضان مصباح الادريسي