وليمة يوم 12 أكتوبر كانت يوما مشهودا في تاريخ الحياة السياسية بالمغرب، وحملت إشارات قوية لمن يغمض عينيه عن الواقع، ولا يريد أن يقف على الحقيقة المرة التي أرسلها لنا نوابنا بعد أن تزينت هاماتهم ببطونهم. كعب غزال والملكية البرلمانية أية علاقة وأية مفارقة وأيهما أولى؟ أحيل هذا السؤال على الذين يرون في أنفسهم العارفين بخبايا السياسة في بلادنا والمنظرين لمستقبل هذا البلد وهم نخبة تدعو إلى اعتماد الملكية البرلمانية كنظام سياسي بات يفرض نفسه كخيار أصبح البديل الوحيد والأوحد؛ ونأمل من جوابهم أن يدلونا على الشفرة التي تفسر هذا السلوك المشين.

وإلى حين ذلك نقول إن نوابنا الجائعين النائمين لم يدخروا جهدا مشكورا في إعطاء الدليل للمنظرين الحالمين بأن أولئك الذين يقال عنهم إنهم ممثلو الشعب المغربي ليسوا بحالة نشاز في ما هم عليه من وضاعة، بل شأنهم في ذلك كشأن فقهاء المساجد العتيقة، تجدهم في ولائم السراء والضراء.. ولا غرابة في ذلك لأن العفة ليست من شيمهم؛ فهم من طينة البقية ولم يأتوا من كوكب غير كوكبنا، واهتماماتهم وانشغالاتهم هي الاستمرار في محلبة تسمى برلمانا..يشرعون لأنفسهم وليس للشعب؛ فالنائب الذي يسيل لعابه على كعب غزال و"المحينشة" ولا يخجل من تكديس الجيوب وغطاء رأس جلبابه بالحلويات، كيف يؤتمن جانبه في قضايا مصير الأمة؟ وكيف يعول عليه أن يشرع قوانين تلتقي مع اهتمامات الناس وتلبي حاجياتهم؟.. اختياراتهم ليست اختيارات شعبية، وما المانع في أن يكونوا على خلاف ما هم عليه؟ لا شيء يحول دون ذلك سوى أنانيتهم ومصالحهم.. لهم سلطات دستورية في التشريع بشقيه، إما بإصدار قوانين أو المصادقة على قوانين السلطة التنفيذية، ولهم سلطة المراقبة، لكن يمارسونها في أفضل الأحوال بتزلف.. وما داموا على ما هم عليه أولا من جهل وأمية، فهناك منهم من ليست له شهادة ابتدائية، وثانيا من جشع وتبادل المصالح، ومن تفاهم وظيفي على الأدوار وتقاسمها مع الجهاز التنفيذي، فإن تلك الصلاحيات الدستورية حتى ولو كانت خير ما حبلت به الديمقراطية تبقى مساحيق وزينة للواجهة. فالعقليات بها خلل والنفوس مريضة غير مستوية يجرفها حب الأنا وما بعدي إلا الطوفان.

والبرلماني مثله كمثل ذاك المغربي الذي عوض أن يغيث أخاه الجريح في حادثة القطار سارع إلى سرقته ونهبه وتجريده من نقوده وحقائبه. ومن سخرية القدر أن يحدث ذلك في أسبوع واحد ليكشف لنا المشهدان الحقيقة المؤلمة التي نحن عليها، وهي أزمة قيم وأزمة مجتمع.

فالانتقال من ملكية تنفيذية إلى ملكية برلمانية، كما ينادي بذلك الحالمون المنقطعون عن الواقع، لا يكمن سره في تعزيز صلاحيات السلطة التشريعية وجعلها حجر الزاوية في النظام السياسي، فتلك نظم تعالج بجرة قلم، بل السر في المواطن أصلا وتعقيداته، وفي إشكالية تغيير العقليات..وتغييرها ليس أفقيا، بل يبدأ من القاعدة التي هي بدورها غير سليمة وغير مطمئنة. ومادامت العقلية على ما هي عليه، فنواب الأمة لغد نتأمله لن يكونوا أفضل من المنتوج الحالي.

وما يقال عن ملكيتنا بأنها ملكية تنفيذية هو تحامل أكثر من اللازم وهو غير بريء من أي شبهة، كما هو تحامل لا يخلو من علامة استفهام. فإلصاق تلك الصفة بنظامنا لا يبرره واقع ولا تفنده ممارسة، بدليل أن المفارقة كانت وليدة اللحظة وفي المكان، وجلية بين ذاك الذي دعا إليه ملك البلاد، من قبيل حث همم البرلمانيين على خدمة قضايا الأمة، وبين ردة الفعل المخزية لسادتنا النواب. فعاهل البلاد لم يلتقط بعد أنفاسه حتى انهال نواب "اغريبة" على الحلو والمالح ولم يتركوا منها سوى الأطباق الفارغة. "لمن كتعاود زابورك يا داوود". خطاب ملكي يحشد الهمم فيما اللئام في الولائم نزل بهم الصمم.

وليعلم الحالمون من دعاة الملكية البرلمانية أننا لسنا على خلاف معهم من حيث المبدأ. ورحم الله ذاك الذي قال إن السياسة كالزراعة، لا يمكن جني ثمارها ما لم تنضج. فثقافاتنا على المستوى الفردي كما هو على نطاق المؤسسات لم تشكل يوما ما مظلة نتفيأ تحت ظلالها في واحة من الديمقراطية. الأنا حاضرة ونكران الذات غائب عند جميع الأطياف والأحزاب. وإذا لم يكن كذلك فما هذا الذي حمل عاهل البلاد إلى حث الأحزاب السياسية على تشبيب كوادرها. الحرس القديم ألف أن يظل متربعا على الكرسي إلى أن يسلمه لأحد من صلبه، وكذلك السلطة.

وليعلم أيضا المنقطعون عن الواقع أن نواب مؤسستنا التشريعية الذين يزايدون على بعضهم في اللغو لا فرق فيهم بين الليبرالي ولا الوسطي ولا اليساري ولا الإسلامي ولا من هو في السلطة ولا من هو في المعارضة.. جميعهم ينحدرون من سلالة بني "جويعان"، وكل واحد منهم له طريقته المفضلة في الوصول إلى مبتغاه.. منهم من يهديه شيطانه ويستغل منصبه ليتدبر شأن فلذات أكباده بالتسول لهم على أعلى مستوى في الخارج لضمان مستقبل لهم بعيدا عن الوطن، ومنهم من تهديه ملائكته بالوعظ والإرشاد لتمكين ابنته من منصب بتوظيف مباشر. ومن نوابنا ووزرائنا كذلك من سمحت لهم مناصبهم بتعدد زوجاتهم مثنى وثلاثا وما ملكت أيمانهم من الخليلات المتبرجات، ولا يهم إن كان ذلك يتناقض مع موعظة دعوا إليها يوم كانت اليد قصيرة. وما دامت السلطة التي تعني الانتقال من وضعية إلى وضعية لها تأثير على النفوس واهتزازها، وذلك بالتنكر للمبادئ، فإن التغيير المنشود لن يستقيم ما دام الشخص المغربي على ما هو عليه من مزاج متقلب وسلوك متغير خاضع بدرجات متفاوتة نزولا وصعودا إلى إملاءات الموقع والمنصب.

وخير ما ينبغي أن يسترشد به المرء، والكلام يخص تلك الفئة البعيدة عن واقعها والقابعة في برج المفاهيم والتصورات التائهة، أنه لا وجود لديمقراطية بدون ديمقراطيين، ولا يمكن لملكية برلمانية أن ترى النور بدون برلمانيين قلوبهم على وطنهم قبل أن تكون على جيوبهم. ولعل السيدة نبيلة منيب، والسيد خالد الجامعي، وهما في مقدمة كوكبة الوهم والسراب، قد وقفا اليوم على حقيقة نوابهم؛ الأولى وصفتهم بنواب اغريبة، والثاني صدق القول حينما فسر سلوك النواب بأزمة بنيان فكري، كما اعترف بعظمة لسانه بأن هناك مفارقة بين ملك جاد يحث على العمل ونواب لا هم لهم سوى الحلوى. فالداعيان إذن يقران بأن ملكيتهما البرلمانية ليست لها أرضية خصبة من خلال انتقاداتهما لهذا الآفة التي لن يسلم منها لا البرلماني ولا غيره في كل المواقع كبيرها وصغيرها، وأتمنى لهما أن يكون ذلك بداية صحوة. ولذلك فالعلة أكبر من أن نتجاوزها بقفزة في الهواء قد تتبعها سقطة في الهاوية وما أدراك ما الهاوية. ولنا العبرة في ما نحن عليه من حرية سرعان ما انقلبت إلى فوضى تقض المضاجع، حيث لا أمن ولا استقرار، والأخطر ما فيها قد لا نلوي لا على نظام رئاسي ولا على نظام برلماني. فلنتدبر أمرنا بكل روية وكل راع مسؤول على رعيته، عوض أن نبقى أضحوكة للعالم. مشهد مخز لن تراه في الجمعية الوطنية الفرنسية ولا في الكورتيس الإسباني ولا في مجلس العموم البريطاني.

صبرا يا معشر الحالمين لأن في العجلة الندامة. وليست العبرة في التماثل مع نموذج من نماذج الملكيات البرلمانية في العالم إلى حد نسخها على الحالة المغربية، فقد يكون ذلك من باب المغالطة والمقامرة. فالملكية المغربية لها خصوصياتها ولها تقاليدها ينبغي استحضارها عند إحداث أي نقلة إذا لزم الأمر في المنظومة السياسية المغربية. واتركوا ذلك لعامل الزمن فهو كفيل بالتغيير، وهو التغيير التدريجي الذي ينوب عني وعنك في بلوغ المقاصد بكل أمان وبكل ثقة.

Ejjitlah11@hotmail.fr