دعيت قبل أسبوعين مع وفد اعلامي تونسي لزيارة تركيا واجراء عدد من اللقاءات مع المؤسسات السياسية والاعلامية التركية. ويبدو انها خطوة اعتمدتها السلطات التركية مع العديد من الدول العربية والغربية بعد انقلاب 15 يوليو 2016 الفاشل. وكان من الواضح خلال مختلف الحوارات واللقاءات مع المسؤولين عن الاعلام في الخارجية التركية كما في رئاسة الجمهورية أن هناك انزعاجا من الجانب التركي من مواقف شريحة لا يستهان بها من التونسيين ومن ردود الفعل للعديد من المنابر الاعلامية وحتى المواقع الاجتماعية من السياسة التركية.

لعله من المثير الاشارة الى درجة الدقة التي يتابع المسؤولون في تركيا هذه المواقف في تونس واخرها الانتقادات المتواترة التي عمت المواقع الالكترونية بعد توقف رئيس الحكومة يوسف الشاهد في اسطنبول وهو عائد من المنتدى الافريقي الصيني في بكين ولقاءه براءت البيرق وزير المالية التركية وصهر الرئيس اردوغان في المطار اثناء تزويد طائرته بالوقود. الحقيقة أن ما لا يدركه المسؤولون في تركيا أن هناك أزمة ثقة حقيقية بين البلدين وهي ليست وليدة اليوم بل هي تعود لفترة حكم الترويكا في تونس بزعامة النهضة وما تردد بشأن الاغراءات والضغوطات التركية والقطرية على تونس وعلى دول الربيع العربي لتعزيز مكانة الاسلام السياسي فيها. وقد ساعدت عديد العوامل والمواقف في تعميق أزمة الثقة والهواجس في نظر شريحة من الرأي العام الذي لا ينظر بارتياح لتوجهات وسياسات النهضة الخفية باتجاه أسلمة المجتمع وتغيير النمط الاجتماعي الذي لا يتأقلم مع توجهات وخيارات عناصرها الملقبة بالصقور سواء العائدين من المنافي أو القادمين من السجون.

من الواضح أن السلطات التركية منزعجة من برودة المسؤولين التونسيين وترددهم في الاستجابة للعديد من الدعوات والمبادرات من جانبها للاستثمار في تونس في مشاريع اقتصادية وتجارية صحية او عسكرية أو غذائية وأنها تعتبر أن العجز في المبادلات بين تونس وتركيا مسؤولية الحكومة التونسية والسلطات المعنية التي لم تبادر الى تعزيز موقعها في المشهد التركي وتقديم ما يمكن للسوق التركية استيعابه سياحيا وتجاريا وماليا وثقافيا.

الواقع أيضا أن السلطات التركية وبعد الانقلاب الفاشل في 15 يوليو 2016 بدأت تنتبه الى ازمة الثقة الحاصلة والى الانتقادات اليومية في الصحافة التونسية للايقافات للاعلاميين والجامعيين والمثقفين وغيرهم وقد أدركت وان دعم أنقرة للاسلام السياسي في تونس وحتى في دول الجوار مسألة لا يمكن أن تجد لها القبول بين التونسيين الذين ينظرون الى تركيا على انها ارث كمال اتاتورك الذي ألهم الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة في بناء دولة الاستقلال وهي حقيقة تاريخية لا يمكن تجاهلها.

الحقيقة التالية ان الانطباع الحاصل للزائر الى هذا البلد بعد انتقال تركيا الى النظام الرئاسي المطلق وتحصين أردوغان مواقعه بدستور يعزز سلطاته المطلقة وبرغم الخطاب الاسلامي لاردوغان واصراره على الظهور بمظهر السلطان العائد فان المشهد في الداخل غير ذلك. لسنا بصدد الحكم على النوايا ولا التنجيم بشأن المستقبل وبشأن ما يمكن لاردوغان التخطيط له لتغيير النمط الاجتماعي التركي أو الانقلاب على ارث اتاتورك اب الاتراك ولكن واقع الحال انه حتى الان لم يتجرأ اردوغان على محو ارث اتاتورك. هل يتنزل ذلك في اطار سياسة الاستعانة على قضاء الشؤون بالكتمان وتهيئة الارضية في صمت لهذه الخطوة تلك مسألة أخرى. والارجح أن الرئيس التركي سيفكر بدل المرة ألف مرة قبل الاقدام عليها لسبب بسيط وهو أنه يعرف جيدا المجتمع التركي والرأي العام التركي ولا يمكن ان يجازف بما يمكن ان يدفعه الى سحب ثقته او التشكيك في خياراته المستقبلية في تركيا العلمانية التي تسعى لتعزيز مكانتها في الحلف الاطلسي وفرض موقعها في الاتحاد الاوروبي كعضو محتمل او كمراقب. وتركيا التي تعد ثمانين مليون نسمة لا يمكن لاردوغان ان يدفع بها الى الوراء. نقول هذا الكلام ونحن نتابع المشهد التركي وما يشهده الاقتصاد التركي والصناعة التركية من تطور مثير.

يجمع الملاحظون والمتتبعون للشأن التركي انه وبعد أن نجح الرئيس رجب طيب اردوغان في اعادة صياغة الدستور الجديد والغاء النظام البرلماني وارساء النظام الرئاسي الذي يمنحه سلطات مطلقة لحكم تركيا فان الرئيس التركي الذي يجاهر برفع شعار رابعة حيثما تنقل في الخارج، فانه عمليا لم يتجرأ على الغاء أو التخلي عن شيء من قرارات ومبادئ مؤسس الجمهورية التركية كمال أتاتورك. وبرغم الخطاب الاسلامي للرئيس التركي فقد تجنب على الاقل حتى الان المس بارث أتاتورك او التعرض للهوية التركية الكمالية او هذا على الاقل ما يبدو حتى الان رغم كل الصلاحيات التي يمتلكها. بل على العكس من ذلك فقد ظل اردوغان حريصا على مشاركة الاتراك احياء ذكرى مؤسس الدولة التركية الحديثة ومخاطبة الشعب التركي سنويا بحضور الدبلوماسيين الاجانب من ضريح اتاتورك الذي اقيم في العاصمة أنقرة والذي يظل وبعد قرن على ولادة اتاتورك مزار الاتراك من مختلف الاعمار والاجناس فيما تحافظ مجموعة الحرس الجمهوري التركي هناك على حماية الضريح والحفاظ على تقليد الاستعراض العسكري اليومي هناك. واذا ما بحث زائر العاصمة التركية أنقرة والعاصمة الاقتصادية اسطنبول عما من شأنه أن يوحي بمحاولة طمس حضور اتاتورك او التخلص من مبادئه وقيمه فقد لا يجد ما يؤكد ذلك. بل لعل في تمسك اردوغان حتى الان بمكاسب وارث تركيا الكمالية ما قد لا يحظى برضاء الاحزاب الاسلامية التي تتباهى بالنموذج التركي وتدعو الى الاقتداء به لتحقيق النهضة الاقتصادية والاجتماعية الحاصلة في هذا البلد الذي استطاع تحقيق قفزة اقتصادية برغم تراجع الليرة في المدة الاخيرة وتبوأ المرتبة الـ17 ضمن اكبر اقتصاديات العالم والمرتبة الخامسة ضمن قائمة أفضل اقتصاديات اوروبا رغم أن تركيا لم تحظ بعد بالقبول في الاتحاد الاوروبي..

اردوغان وحماية ارث اتاتورك

ولكي لا نقع في التناقضات فقد يكون من المهم التوقف عند ثلاث مظاهر أساسية في المشهد التركي لا يزال ارث اتاتورك سيد المشهد والبوصلة في تحديد الخيارات المجتمعية وخطوط السياسة الخارجية حتى أن ادارة الاتصال التابعة لوزارة الخارجية التركية جعلت من مقولة اول رئيس لتركيا شعارا لها لا يمكن للزائر ألا يتوقف عنده وهو شعار يقول "السلام الداخلي يعني السلام في العالم".

ورغم تداعيات الحرب الدائرة في سوريا على تركيا فقد استطاعت تركيا الحفاظ على السلم الداخلي فيها. طبعا لسنا في اطار البحث عن الموقف التركي من الازمة السورية ولا عن خيار اردوغان منذ البداية واصطفافه الى جانب مجموعة أصدقاء سوريا فتلك مسألة عميقة ولا تخلو من حسابات اقليمية ودولية وصراعات نفوذ وتنافس معلن في المنطقة كان ولا يزال وراء الدمار الكبير فيها وسببا مباشرا أيضا لحالة الفراغ والانهيار الامني الذي عزز حضور الشبكات الارهابية المسلحة، ولكن الامر يتعلق بالواقع التركي الداخلي والذي برغم التوجهات الاسلامية الواضحة والمعلنة للرئيس اردوغان فانه لم يسع لإلغاء ولا طمس ولا تقزيم او تحقير مؤسس الجمهورية التركية على أنقاض الامبراطورية العثمانية المنهارة.

بل ان المتتبع لنمط الحياة الاجتماعية في تركيا يلمس وفاء قد يبدو مبالغ فيه احيانا للزعيم الراحل اتاتورك الحاضر في البرامج التربوية في المعاهد والجامعات كما في الحفاظ على الدستور التركي والاصلاحات الاستثنائية التي تجرأ على فرضها اتاتورك في اعقاب الحرب العالمية الثانية وفرضها على مجتمع تغلب عليه الهوية الاسلامية وثقافة التدين الى حد الافراط..

بل انه عندما راجت انباء عن اعتزام بلدية انقرة اقتطاع جزء من ضريح اتاتورك لبناء مساكن للعسكريين تجند المجتمع المدني والاحزاب والجامعيين افرادا وجماعات لرفض ذلك معتبرين ان ضريح اتاتورك مقدس ولا يجوز المساس به.  ويمكن للزائر أو السائد أن يتوقف عند الاقبال الكبير للاتراك من مختلف الانتماءات والتوجهات ومن مختلف الاجيال على زيارة ضريح اتاتورك ومتابعة الحركات الدقيقة للحرس المرابض هناك وعملية تغيير عناصره كل ساعة على وقع النشيد الوطني التركي. بل ان المتحف المترامي الاطراف الذي يكون جزءا من ضريح أتاتورك يحتوي اعلان قيام الجمهورية التركية على أنقاض الرجل المريض الامبراطورية العثمانية.

لقد حافظ أردوغان على مبدأ العلمانية للدولة التركية ولم يجازف بتغيير ذلك وربما حسب حساباته ولم يشأ اثارة حساسية الحلفاء الاوروبيين لاسيما وان بلاده عضو في الحلف الاطلسي وليس في حسابات تركيا الساعية للانضمام الى الاتحاد الاوروبي الانسحاب من الحلف.

تماما كما حافظ اردوغان على الحروف اللاتينية التي اعتمدها اتاتورك بدلا من الحروف العربية ولم يعرف عنه ولم يسبق أن اشار الى العودة لاعتماد حروف القران كبلد يضم اغلبية مسلمة اما النقطة التالية والاهم فتتعلق باحترام اردوغان وتبنيه للاصلاحات التي فرضها اتاتورك في بلاده والمتعلقة خاصة بالمرأة. ويحسب لاتاتورك حرصه فرض مبدأ المساواة بين الجنسين منذ اعلانه مجلة الاحوال الشخصية في 17 فبراير 1926 والذي يشمل المساواة في الارث ولا يزال ساري المفعول حتى اليوم رغم أن أغلب الاحزاب الاسلامية التي تدعي الاقتداء باردوغان لا تتعرض الى هذه المسألة ولا تريد التطرق اليها من قريب أو بعيد. وحتى اذا سألت أحد الاتراك مستفسرا عن المساواة في الارث سينظر اليك بكثير من الريبة على اعتبار أن الامر محسوم والجدل تجاوزه الزمن منذ نحو قرن.

تركيا الاسلامية وهذا نسوقه الى جانب ما سبق من ملاحظات تتجه الى تعزيز موقعها الاقتصادي وتعزيز الصناعات الثقيلة والصناعات الحربية التي تسعى لتصديرها. وهي تستعد لافتتاح مطار جديد في الشهر القادم بطاقة استيعاب تقدر بـ90 مليون مسافر يوميا وتخطط لتحقيق رقم 300 مليون في فترة لاحقة وهو ما يمكن أن يزعج الكثير من العواصم الاوروبية التي تستعر صعود وتوسع الاقتصاد التركي المنافس للمصالح الاوروبية.

والطريف أن عدد المحجبات في المدن التركية الكبرى يبدو محدودا مقارنة بغيرها من المدن والعواصم العربية بما في ذلك المدن التونسية التي انتشر فيها الحجاب بشكل سريع ومفاجئ بعد الثورة، ولا يتوقع الزائر أن يرى أغلب النساء في تركيا يضعن الحجاب أو البرقع بل العكس هو الصحيح والسفور سيد المشهد حتى وان بدا ذلك غريب بعض الشيء. تماما كما تركيا التي يعتبر الكثيرون أنها ترفع راية الدفاع عن الاسلام وهي التي تتولى ترؤس المؤتمر الاسلامي في الوقت الراهن جعلت المساجد المنتشرة في كل مكان بما في ذلك في المحلات التجارية والمطاعم الكبرى فضاء للعبادة لمن شاء ولم تمنع بيع الكحول في المحلات التجارية ولا تغلق المطاعم في رمضان وهي التي تستقبل ملايين السياح من مختلف انحاء العالم سنويا وتراهن على المزيد..بعض المظاهر الاخرى المتفشية في المجتمعات العربية والممثلة في ظاهرة سيارات الاجرة والحافلات والسيارات الخاصة التي تحولت الى لوحات للآيات القرآنية والدعاء دون اعتبار للاوساخ التي تحملها لا وجود لها في هذا البلد. واغلب السيارات لا تحمل اي اشارات اسلامية. تركيا تحتضن مؤسسات وجمعيات للمثليين بشكل قانوني تماما كما تحتضن جمعيات ومنظمات اسلامية وهو ما لا نخال ان الاحزاب الاسلامية في دول الربيع العربي يمكن أن تقبل بمثل هذه الخيارات التي تعد من المسائل المتداولة والعادية في بلد مثل تركيا.

بعض الاتراك ممن امكن التحاور معهم يؤكدون أنه لا يمكن لاردوغان التنكر لقيم اتاتورك لانه يدرك جيدا أن تغيير النمط الاجتماعي خط احمر وان الرهان على هذا الخيار سيكون خاسرا بالنظر الى ثقافة المجتمع التركي وانفتاحه على كل المجتمعات والثقافات برغم اعتزازه بقوميته وهويته التركية وهو ما يفسر عدم مجازفة اردوغان بذلك ويعتبرون أن اي محاولة من جانبه في هذا التوجه لن تكون لصالحه لانه خبر جيدا توجهات المجتمع التركي ولكن ايضا حسابات وخيارات الناخبين الذين صوتوا لحزب العدالة والتنمية وساندوا اصلاحات اردوغان الاقتصادية ووقفوا الى جانبه خلال انقلاب 2016 دفاعا عن قيم ومبادئ الجمهورية وهم لن يترددوا في التصدي له اذا استشعروا تنكرا لتلك المبادئ التي اسس لها اتاتورك.

ليس من الواضح ان كان اردوغان يخفي نواياه وحساباته المستقبلية قبل تهيئة الارضية للعودة الى المحاكم الشرعية وتعدد الزوجات والغاء المساواة في الارث. والارجح أنه لن يقدم على ذلك وهو من دعا الاخوان في مصر بعد سقوط نظام مبارك الى تبني دستور علماني الامر الذي اثار سخط الاخوان وغضبهم في حينه. والارجح أن الاختلاف بين اردوغان وبين غيره من الاسلاميين وبرغم كل الانتقادات الموجهة له بسبب التضييق على الحريات واستهداف الاعلاميين والمعارضين أن اردوغان لم يأتِ من الخارج ولم ينشأ خارج الحدود التركية وسجل دخوله المشهد السياسي وصعوده في الداخل بمعنى أنه يعرف جيدا خصوصيات المجتمع التركي ولا يمكن ان يراهن على تغيير ما لا يمكن للاتراك قبوله وهذا اصل الاختلاف بين الاسلاميين في تركيا والاسلاميين القادمين من السجون والمنافي في دول الربيع العربي وبينها تونس والذين يصح القول ان الخطأ الاكبر الذي وقعوا فيه بعد وصولهم الى السلطة انهم لم يسعوا لمعرفة المجتمع الذي يحكمونه فكانت محاولات اسلمة التونسيين وفرض دستور اسلامي والتنكر لقيم الجمهورية والغاء الارث البورقيبي واعتباره رجس من عمل الشيطان وسبب من اسباب التخلف في تونس وابتعادها عن هويتها العربية والاسلامية. حتى أن بعض القيادات الاسلامية التونسية كانت ترفض الترحم على بورقيبة وتقول انه لا يجوز الترحم عليه. كما اتاتورك عمد بورقيبة الى فصل الدين عن الدولة واسس لتعليم متطور يواكب العصر ولم يذهب الى ما ذهب اليه اتاتورك من الغاء للحروف العربية او اعلن للمساواة في الارث لبقي الجدل قائما والمعركة مستمرة حتى اليوم بعد الحملات الشرسة التي تعرضت لها لجنة الحريات بسبب قضية الميراث.

بعيدا عن السياسة وصراعاتها تبقى تركيا عالما ساحرا بما تختزنه من كنوز أثرية ومواقع تستقطب الزوار من مختلف انحاء العالم ولكنها تظل قبل كل ذلك كتاب مفتوح للتاريخ بكل دروسه قديمها وحديثها وبما تختزله من صراعات القصور وتنافس الحكام وهي بموقعها الاستراتيجي تجمع بين عظمة التاريخ وأهمية الجغرافيا وهي من بين الدول التي أدركت قيمة زعمائها وقياداتها الذين اسسوا للموقع الذي تتبوأه بين الامم وادركوا أن في احترام مؤسسي الدولة احترام لشعبها ولمكتسبات الاجيال المتعاقبة التي تحرص على الاحتفاظ بما ينفع واصلاح ما يستوجب الاصلاح والتمسك بهويتها وذاكرتها الوطنية. ولعل اردوغان ادرك ما غاب عن الاسلاميين في بقية العالم العربي أن القيادات تمضي وان الاوطان باقية فاختار ان يكون اتاتورك حاضرا في توجهاته وسياساته لا بوضع صورته على مكتبه فحسب والتظاهر باحترامه ولكن بمواصلة مسيرة تركيا نحو التقدم والازدهار وبناء الجامعات الراقية حتى وان اختار خطابا معاكسا في الخارج.


اسيا العتروس