لا يختلف اثنان على أن الأجواء الراهنة أو المناخ العام مشوب بالتوتر والقلق، نتيجة غياب الثقة وانتشار اليأس في صفوف الشباب، لا سيما وأن منسوب التشائم في ارتفاع يصعب ضبط إيقاعه والتحكم في تداعياته على المجتمع وعلى المشترك داخل هذا المجتمع، خاصة بعد ظهور مؤشرات مقلقة تجاوزت سقف التوقعات واستفزت الرأي العام، من قبيل رفع علم إسبانيا أو المطالبة بإسقاط الجنسية في مظاهرة بتطوان. ويمكن إجمال مظاهر الاحتقان الموجود وبعض الحلول أو الخيارات الممكنة للخروج من الوضع الراهن في ستة ملاحظات أساسية:

الأولى: بالعودة إلى الوراء، إلى الأمس القريب، يلاحظ أن هناك خطأ ما وقع أو جرى في سياقات معينة، خطأ يرتبط أساسا بترتيب النتائج، ويمكن هنا الحديث عن محطتين أساسيتين مفصليتين في تاريخ المغرب المعاصر، الأولى تتعلق بطريقة التعامل مع نتائج انتخابات 2002، المتمثلة في غلق قوس تجربة حكومة التناوب، أي حكومة اليوسفي، بطريقة لم تكن مدروسة تقترب إلى المزاجية والعشوائية. لذا، فارتدادات ونتائج تلك المرحلة حاضرة اليوم في تفاصيل المشهد السياسي بطريقة مباشرة وغير مباشرة، خاصة فيما يتعلق ببداية تفكك أحد أهم الأقطاب اليسارية وفراغ المشهد السياسي.

المحطة الثانية، ترتبط بطريقة تدبير أو ترتيب نتائج حراك 20 فبراير، خاصة بعد انتخابات 2011، حيث انتقل صراع الدولة مع الإسلاميين من مواقع أو مستويات إلى أخرى، انتقل من خارج دوائر الحكم، (كانت تيارات الإسلام السياسي في موقع المعارضة) إلى مربع السلطة (ترؤسهم للحكومة). هذا الوضع أفضى إلى وجود صراع خفي يخاض داخل هياكل ومراكز مؤسسات الدولة؛ ما أسفر عن وجود نوع من التنافس أو الاحتكاك نتج عنه تعطيل وجمود على مستوى التفاعل مع انتظارات الشارع وهموم الناس، وإضعاف أهم المكونات الحزبية (حزب الاستقلال) في معرض البحث عن منافس شعبوي لبنكيران؛ ما أسفر عن صعود شباط ونتج عنه إنهاك وتدمير ذاتي لحزب تاريخي كان من الممكن أن يلعب أدوارا مهمة في سياق معين.

كما أن الأزمة الحالية ليس مستبعدا أن تكون نتاج أو من مظاهر الصراع الخفي بين الدولة والإسلاميين، فالسلطة سابقا كانت تراقب وتدبر ملف الحركة الإسلامية من بعيد، أما اليوم والآن، فقدت وجدت نفسها وجها لوجه مع هذا التيار من داخل المؤسسات.

الملاحظة الثانية: سقوط البدائل أو الوسائط التقليدية أدى إلى استدعاء المؤسسة الملكية، بحيث صار الشعب يستدعي الملك للخروج من الأزمة، الكل أصبح يطالب بتدخله للخروج من "الفوضى الزائدة" أو من القلق المزمن المنتشر في صفوف المجتمع.

وجدير بالذكر أن المطالبة سابقا بتدخل الملك في الأزمات والمحطات الكبرى كانت محكومة بروابط الثقة والتقدير اللذين تحظى بهما المؤسسة الملكية عند المواطنين، لكن اللافت أن شكل وطريقة وكيفية المطالبة بتدخل الملك خلال الظرفية الراهنة بدت مختلفة تماما عن سابقاتها، بحيث أصبحت توجه سهام النقد إلى المؤسسة نفسها، وهي التكلفة التي ظهرت بفعل الزج بالملك في الفضاء العمومي بتلك الطريقة والدفع به إلى واجهة الأحداث تارة باعتباره رئيسا للدولة، وتارة أخرى محاولة تصويره "المنقذ" أو "المخلص" وفق التقاليد الكاثوليكية، فأصبحت المؤسسة الملكية في "مواجهة السخط العارم" مما استهلك شيئا من رصيدها ومن مشروعيتها، بحيث صار الكل ينتظر قرارات كبرى من طرف الفاعل المركزي من شأنها أن تحدث رجة في الواقع المتردي وتحيي آمال فئات عريضة من المجتمع المغربي في إحداث التغيير.

لكن الملاحظ، أن سقف التوقعات والانتظارات تلاشى وبدأ في الانخفاض بعد خطاب العرش الأخير في صيف 2018، حيث انتقلت موجه الغضب والانتقاد بطريقة تثير الكثير من علامات الاستفهام من الحكومة والبرلمان إلى الفاعل المركزي بأسلوب وطريقة غير معهودتين على مستوى منصات مواقع التواصل الاجتماعي.

الملاحظة الثالثة: القلق داخل المجتمع صار واقعا، المغاربة متشوقون لقرارات كبرى، الشباب متحمس ويرغب في حدوث أشياء مغايرة، خيارات تكاد تكون محدودة، مزاج عام كذلك متعطش للتغيير ينتظر شيئا ضخما، نظرا للجمود السياسي الموجود. في المقابل، فإن الخطوات والمحاولات الرامية إلى إحداث التغيير تصطدم بمعطى أساسي، وهو وجود ثلاث قوى كبرى منظمة ومؤثرة في الساحة المغربية، الجيش، المؤسسة الأمنية، الإسلاميون.

غير أن حدود ومجالات تدخل كل قوة يؤدي في المحصلة إلى اصطدام بعض القوى بطريقة غير مباشرة، عبر وكلاء، بغية الاستحواذ على الفضاء العمومي، وبهدف إنتاج رموز جديدة وخلق قوى جديدة تزاحم وتنافس القوى التقليدية المنظمة.

في المقابل، هناك ما يقارب 12 مليون مغربي، نسبة كبيرة من "الشباب الهائج" غير المؤطر، يتشكل وعيه ومعظم تمثلاته وقناعات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، شباب له أحلام وانتظارات، من المحتمل أن يتحول في أي لحظة الى حركة جارفة، لكن الأجوبة الحكومية المغرقة في الأرقام والتوصيفات الجافة لا تغري هذا الجيل الذي يحتاج إلى من يعطيه الأمل، يحتاج إلى تصورات جديدة، إلى نظرة مغايرة، إلى خلق وإنتاج ثروات جديدة.

أما القوى الثلاث المذكورة، فيمكن فهم دورها ومجال تحركها بالعودة إلى ما سمي "بالثورة" أو الحراك الذي شهدته الرقعة العربية أواخر سنة 2010، فمثلا في مصر أفرزت "ثورة 25 يناير" قوتين هما العسكر والإسلاميون، فرغم أن هؤلاء–الإخوان المسلمون-لم يشاركوا ولم يساهموا في هذا الحراك، إلا أنهم حصدوا نتائجه من خلال تصدر الانتخابات، ووجد العسكر المصري نفسه وجها لوجه مع الإسلاميين. الشيء نفسه في تونس والمغرب، بحيث إن إسلاميي العدالة والتنمية لم يشاركوا في 20 فبراير لكنهم تصدروا المشهد السياسي وقطفوا ثمار الحراك الفبرايري. وبفعل الخصوصية المغربية ظل الجيش بعيدا يراقب الوضع، لكن المؤسسة الأمنية كانت في قلب الحدث وساهمت في تدبير الحراك عبر مختلف المستويات من ضبط سقف وتسييج مجالات تحرك الفاعلين.

الملاحظة الرابعة: انتشار ثقافة المسموع أو احتكام الجماهير وتأثرها "بالانطباعات الجاهزة" التي تكون عادة خاطئة. والذي يغدي هذه الثقافة هو ضعف وسائل التنشئة وانتشار اليأس وضعف الخطاب الرسمي، وغياب البدائل المقنعة والواقعية، وتغول الفساد بمظاهره المتعددة؛ الأمر الذي ساهم في فقدان ثقة المواطنين في المؤسسات؛ بحيث صار المواطن يرفض كل ما تصدره وتنتجه الدولة، ويقبل بسهولة كل "الإشاعات" و"الحملات والادعاءات" مجهولة المصدر، التي تستهدف رموزا وأشخاصا.

البيئة الحاضنة لمثل هذه الأنماط والسلوكات هي ضعف مؤسسات الدولة وانتشار الفساد. لذلك، فالمدخل لاسترجاع ثقة المواطن، يستلزم تفعيل مبدأ المحاسبة والمساءلة من خلال إحالة الملفات المتعلقة بالخروقات على القضاء، خاصة المضمنة بتقارير المؤسسات الرسمية والرقابية، مثل المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة للإدارة الترابية.

الملاحظة الخامسة: اللحظة الراهنة تقتضي تفكيرا أكثر عمقا، بغية بلورة رؤية من نوعا ما، ووضع خريطة محددة لفهم التحولات الراهنة، هذه اللحظة تحتاج إلى مجهود غير عاد للتحكم في زمام الأمور مرة أخرى، فمن جهة ليس هناك في الأحزاب من هو قادر على تحمل المسؤولية في الظرفية الراهنة، نظرا للعوامل الموضوعية والذاتية التي أفرغت التنظيمات السياسية من محتواها وأفقدتها القدرة على الفعل والمبادرة، ومن جهة أخرى، فعهد الملك محمد السادس لم يواكب بتشكيل وإنتاج نخب جديدة، بحيث بقي رهان تجديد النخب حبيس دائرة ضيقة شملت "الطاقم القريب" والمساعد للملك، ولم تعمم مسألة دوران النخب على مختلف المستويات؛ إذ ظلت الغالبية الساحقة من القادة الحزبيين وبعض المسؤولين من مخلفات حقبة مضت أو من عهد المرحوم الحسن الثاني. ومن تجليات ذلك، أن جيل السياسيين الموجودين حاليا وقادة الأحزاب عاصروا فترة الراحل الحسن الثاني.

فعدم إنتاج نخب جديدة والاعتماد على جيل سابق محكوم بثقافة ورواسب معينة، أفضى إلى توقف الزمن السياسي المغربي، وإلى تكرار وإعادة إنتاج الممارسات العتيقة المتجاوزة نفسها؛ ما نتج عنه كذلك المراهنة على البدائل ذاتها واعتماد الأساليب والطرق نفسها التي اعتمدت سابقا في ضبط الحقل السياسي والحزبي وتوجيهه، خاصة فيما يتعلق بخلق تنظيمات وهيئات للمنافسة والتزاحم.

الملاحظة السادسة: الوضع الحالي يتطلب البحث عن نقطة انطلاق حقيقية، والتنبه والانتباه واستشعار حجم المخاطر والمتغيرات، فالمغرب يواجه اليوم تحديات وإشكالات لم يدرسها بالقدر الكافي، ولم يكن مستعدا لها بالقدر الكافي كذلك. فالظرفية الراهنة تحتاج إلى خطة عمل لمواجهة المستقبل، لأن السياسات الحالية من الصعب أن تقنع المواطن بأن المستقبل سيكون أفضل، فالمسالك وعرة وهناك عقبات، لكن الأمة المغربية اجتازت سابقا فترات ومحطات أصعب وأخطر من الفترة الراهنة.

لذلك، فالظرفية الحالية تستلزم وتستوجب القيام بخطوات أولية قبل الذهاب إلى المستقبل والحرص على:

تخفيف التوتر الموجود من خلال التواصل واتخاذ خطوات وقرارات مختلفة وعاجلة.

تجديد موارد مشروعية المؤسسة الملكية/استرجاع الرصيد/الصورة/المكانة باعتبارها صمام الأمان بالنسبة للمغاربة.

تحديد الهدف ورسم الطريق.

حشد وتعبئة الطاقات وتسخير الإمكانات.

 

محمد الزهراوي*


 

*أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاضي عياض