معالي رئيس الحكومة الدكتور سعد الدين العثماني؛

 

انه لمن المؤسف أن نشهد هذه الانتكاسة في قضية اللغة العربية ككل، وفي مقدمتها سياسة التعريب، باعتبارها قضية تاريخية ارتبطت في الثقافة المغربية بالتحرر من قبضة الاستعمار واستكمال الاستقلال والوحدة وسيادة القرار، وذلك في عهد هذه الحكومة التي انبثقت عن أغلبية برلمانية تنتمي لحزب العدالة والتنمية الذي ظل ضمن المدافعين عن قضية اللغة العربية منذ نشأته. وإننا كمواطنين غيورين على الوحدة والتماسك الاجتماعي لهذا الوطن، ومدافعين عن استقلاله اللغوي، وعن كرامة المواطن التي تُهدر يوميا وفي كل ثانية، نتيجة هذا اللتمكين المتعصب والسافر طلية عقود خلف الكواليس والغير قانوني لفرض هيمنة ذات مظهر استعماري غير مشروعة، للغة شعب أجنبي، وإقصاء لغة المواطن المغربي، التي هي اللسان الذي يعبر عن مكنوناته وعن ذاته وعن مكانته كمواطن وإنسان حر متساو الحقوق مع جميع مواطني العالم، وكون المغربي ليس أقل شأنا أو قيمة من أي إنسان آخر في هذا العالم، فبالتالي، ووفقا لجميع الأعراف الإنسانية الكونية ومعاهدات الأمم المتحدة في خصوص الثقافة والحقوق المرتبطة بها وانسجاما مع ما ينص عليه الدستور والإجماع الوطني الشعبي والسياسي والمدني، ومن خلال المشروعية التاريخية لهذه اللغة العظيمة، فإننا نناشدكم معالي رئيس الحكومة تفعيل صلاحياتكم، وتنفيذ التزاماتكم الحزبية باعتباركم ممثلا لحزب حمل راية الدفاع عن العربية لغة وثقافة، وذلك باتخاذ قرارا يعيد للغة الشعب المغربي هيبتها ومكانتها ويضعها في موضعها الطبيعي، ويرجع اللغة الفرنسية إلى وضع اللغة الأجنبية، وهو الوضع الطبيعي الذي يُفترض أن تكون عليه، وفق ما هو متعارف عليه عالميا بشأن اللغات الأجنبية، وهو الوضع الذي تجاوزته هذه اللغة الأجنبية بكثير ضدا على الدستور آخذة بذلك مكان اللغة الرسمية الأولى، ودون احترام للأحكام القضائية التي أبطلت العمل بها في كل ما يخص شؤون المواطن، وأذكركم أن "مركز الحقوق الاجتماعية والاستراتيجيات الإنمائية" سبق أن راسلكم قبل أشهر، برسالة تضمنت عدة مقترحات أولية تخص العربية كلغة حياة عامة، كما تضمنت نقاطا حول ترقية وضعية اللغة الانكليزية باعتبارها لغة العصر والوسيلة الأولى للانفتاح الأوسع والربط مع بلدان العالم.

وأراسلكم مرة أخرى، بهذه الرسالة المفتوحة، في ظل هذه النكسة التي زعزعت كيان المغاربة بعد محاولة "التلهيج" اليائسة التي مست لغتنا العظيمة في بعض المقررات الدراسية، وإذ ندعوكم إلى إعلان قرار رسمي يدين هذه المحاولة اليائسة للنيل من لغتنا ويؤكد رسميا إلغاء كل إدراج لأي عبارات خارج اللغة العربية الفصحى في المناهج التعليمية؛

ففي ذات الصدد، أيضا، وعلى اثر نشر وزارة التربية الوطنية "المنهاج الدراسي" الجديد، والذي أدرج تدريس اللغة الفرنسية ابتداء من القسم الأول ابتدائي، فيما جعل اللغة الانكليزية في القسم الرابع ابتدائي، فإنني أناشدكم معالي رئيس الحكومة التراجع الفوري عن قرار إدراج اللغة الفرنسية ضمن الأقسام الأولى ابتدائي، والذي لم يأخذ بعين الاعتبار لا المطالب المتزايدة بجعل الانكليزية لغة أجنبية أولى في المغرب، ولا حتى التحولات الدولية في مجالات التواصل، وما يعرفه المغرب من متغيرات من ضمنها توجهه نحو أفريقيا بما فيها القسم الانغلوسكسوني والصين والشريك الواعد تركيا، والتنوع الذي ما لبث يتزايد على مستوى الشراكات الاقتصادية والأسواق الدولية.

وننوه إلى أن قرار إدراج اللغة الفرنسية في الأقسام الأولى من شأنه تكريس مزيد من التبعية ورهن حاضر ومستقبل المغاربة داخل الحيز الفرنكفوني جد الضيق والمنعدم الأفق وفرض المزيد من الانغلاق على العالم والانزواء، كما أنه يعد مخالفة صريحة للفصل خمسة من الدستور الذي أكد على" تعلم وإتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولا في العالم، باعتبارها وسائل للتواصل، والانخراط والتفاعل مع مجتمع المعرفة، والانفتاح على مختلف الثقافات، وعلى حضارة العصر"، وهو الشرط الدستوري الذي لا يتوفر في هذه اللغة (الفرنسية) التي يُجمع معظم المتتبعين على أنها لغة فاقدة للبعد الدولي وأن مكانتها بين تلك اللغات الأكثر تداولا، تبقى ثانوية، كما أن هذه الخطوة تناقض أيضا الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب الذي وجه بـ"تعزيز إدماج تعليم هذه اللغات في كل مستويات التعليم".

وان أكثر ما أثار الانتباه في هذه المذكرة هو فرض لغة أجنبية فقدت بريقها ومكانتها الدولية وهي في تراجع يصفه أصحابها بالخطير، ضدا على مطالب الغالبية الساحقة من المغاربة التي تنادي باهتمام حقيقي باللغة الانجليزية، ودون مراعاة مصلحة التلميذ وحقه في التقرير بشأن اللغة التي تُساير طموحاته وتطوره وتلبي له متطلباته، ودون الأخذ بعين النظر ما يتطلبه الوضع خلال المستقبل القريب، حيث تؤكد جميع الإحصائيات إضافة لتصريحات مسئولين كبار في الدولة الفرنسية على سير اللغة الفرنسية نحو الموت المؤكد.

ونذكر بأن الدستور أكد على الانفتاح على اللغات الأكثر تداولا على مستوى العالم، وخاصة اللغات ذات الأهمية في مجالات التواصل والتكنولوجيا وكل ما يرتبط بالعصر الحديث.

ونظرا لحجم هذه النكبة التي حملها المنهاج الدراسي، فان ذلك سينهي كل أمل في التطلع إلى مستقبل يبشر بأفق أوسع وأكثر رحابة لأبناء المغاربة، من خلال انفتاح شامل وحقيقي على حضارة العصر وعلى العالم وعلى ميادين التكنولوجيا والمعرفة، حيث لا يمكن الوصول لهذا الاندماج والانخراط في حضارة العصر، إلا بالاعتماد على الانكليزية لغة أجنبية أولى بدل اللغة الفرنسية التي تبث استحالة تحقيق الغايات المنشودة بواسطتها.

إن فرض هذه اللغة ضمن القسم الأول ابتدائي، والتي صنفتها عدة تقارير في المرتبة ما بعد الأخيرة من بين عشر لغات أكثر استعمالا في العالم، لن يكون له أي نفع سوى إنعاش اللغة الفرنسية التي بلغت مرحلة خطيرة من تاريخها، ولكن على حساب

الحق الإنساني والطبيعي والدستوري لأطفال المغرب في الانفتاح على حضارات العالم والاكتساب الجيد للغة الأولى عالميا والمعترف بها من طرف الأمم المتحدة كلغة استعمال دولي التي تمكن بشكل فعلي وحقيقي من هذه الغاية، وليس بلغة يقوم من وراءها على الدعاية الكاذبة المغرضة والمضللة لتكريس تصور خاطئ مُجانب للحقيقة والواقع، في ذهنية الناشئة المغربية يجعل العالم في نظرها مختزلا في صورة فرنسا. هذا فيما جرى استبعاد الانكليزية من لعب دورها في تحرير الشعب المغربي والوطن من هذا الانغلاق الذي فرضته اللغة الفرنسية على امتداد عقود، وحرمان المغاربة من حقهم الإنساني والدستوري في الاندماج والانخراط في الحضارة العالمية خارج الحيز الفرانكفوني الجد ضيق والذي لم يضف للمغاربة أي إضافة تذكر باستثناء التبعية اللغوية والاقتصادية وحتى الإعلامية، فضلا عن خلق صراعات لغوية وانتهاكات للدستور، وحتى لأحكام القضاء التي قضت بعدم مشروعية اللغة الفرنسية في الإدارات المغربية، كما أنها أنتجت أجيالا بهويات معطوبة مفتقدة للشخصية الثابتة القوية والواضحة، وفي هذا الصدد نعرج سريعا على موضوع اللغة الفرنسية في الإعلام الحكومي، حيث، وعلى الرغم من عدم مشروعيتها دستوريا وقضائيا، غير أننا نجد أنفسنا حائرين، ونحن نشاهد وزارة الثقافة والاتصال تشرعن لهذه اللغة الأجنبية غير القانونية الوجود والحضور المهيمن في الإذاعات والقنوات العمومية، بواسطة دفاتر تحملات تمنح مساحات زمنية واسعة، في شكل برامج ممولة من المال العام، ما يجعلنا نتساءل حول مدى قانونية صرف هذه الأموال على برامج بلغة لا مشروعية قانونية لها، بل كما سلف الذكر، قد حسم القضاء في مشروعيتها، ما يضع حكومتكم أمام تناقض واضح، ففيما تحثون على احترام، والالتزام بالمقررات والأحكام الصادرة عن القضاء، نجد وزارتكم للثقافة والاتصال، أول المبادرين لعدم الالتزام بهذه الأحكام.

معالي رئيس الحكومة، نحن واثقون أنكم تعون جيدا أن أطفال المغرب ليسوا مجبرين على حمل هم لغة شعب آخر أو التفريط في حقهم بامتلاك لغة تواكب العصر، وفي هذا الإطار نشدد في هذا المركز الحقوقي الاجتماعي على ضرورة إبعاد الطفل المغربي عن أي حسابات ضيقة، لأنه كما يعي الجميع، أن حقوق الطفل مقدسة، وأن الدستور يلزم الدولة بحمايتها وبتحصينها، وأن الطفل المغربي ليس "سيروم" (مصل) يمكن استعماله لإنعاش لغة ماتت دوليا، على أمل إطالة عمرها.

ونناشدكم معالي رئيس الحكومة بالتراجع الفوري عن قرار إدراج اللغة الفرنسية ضمن السنة الأولى ابتدائي وتعويضها باللغة الانكليزية، حيث جيل ثورة التواصل وتكنولوجيا المعلوماتية أصبح زاهدا في اللغة الفرنسية ولم يعد يرغب فيها أمام ما تتيحه نظيرتها الانكليزية من آفاق واسعة، كما نذكركم بما كفله الدستور للمغاربة من حق في المشاركة في اتخاذ القرارات المصيرية والسيادية التي تهمه، وما أتاحه للمجتمع المدني من حق في إبداء الرأي والأخذ به، ولهذا فان المفروض على الحكومة قبل التقرير في شأن سيادي ومصيري يتعلق باللغة التي ستحكم مستقبل أجيال قادمة، أن يتم استبيان أصحاب الشأن، أي عموم المغاربة، في هذا الشأن، وأخذ رأيهم، وذلك يمكن أن يتم بواسطة استبيانات توزع على المدارس لأخذ رأي أساتذة التعليم الابتدائي والتلاميذ بشأن اللغة الأجنبية الملائمة لهم.



نبيل بكاني