التنمية المحلية هي مشروع يهدف إلى تطوير وتغير واقع الحال. تَغْيِير جذري يمس بنية المجتمعات الإنسانية والتي تتخبط في كثير من الأزمات والصعوبات في التأقلم مع الحياة المادية والطبيعية في نفس الوقت، إنها تنمية تربطها علاقة جدلية بالموروث الثقافي المادي والمعنوي الذي أفرزه الإنسان عن طريق الاحتكاك بأجناس وأعــراق بشرية أخرى، وهذه العلاقة الجدلية تتمثل في؛ أن غنـــى الثقافة الشعبية سيؤدي مباشرة إلى تنمية محلية، والتنمية تستلزم بدورها ثقافة شعبية. وهذا ما سيضعنا أمام سؤال عويص ألا وهو: لمــاذا الجنوب الشرقي يعرف مادة أنثروبولوجية غنية لكن التنمية المحلية لا حول لها ولا قوة؟!

إن مفهوم الثقافة تجاوز تلك النظرة الكلاسيكية والتي تتعلق بالحدس والفنية أو الجمالية إلى تعددية ثقافية تشمل ميادين أخرى كالاقتصاد والسياسة والبيئة، وتتجاوز حدود الفن المعروف والمعرفة لتندمج في مجالات أوسع تتصل برسم المقاربات الاستراتيجية وأخذ القرارات. ومن ثمة فإن حتمية التفكير في ذلك التداخل القائم بين الموروث الشعبي والتنمية المحلية أضحى أمرا ضروريا وكشرط موضوعي لتقدم المجتمع ورفاه الأفـــراد.

إن الجنوب الشرقي مثله مثل أي كيان متغير، وليس هنا من واقع إنساني ثابت بل الكل في تغير مستمر، وبالتالي فالتنمية مشروع إنساني تطمح إلى خلق تغير جذري وتطوير واقع الحرمان والتهمش، ومنه فالثقافة والتنمية وجهان لعملة واحدة. وهذا ما رمى إليه بعض الاقتصاديين بكون الثقافة تقودنا إلى فهم التنمية الاقتصادية، ومن أمثال هؤلاء "ديفيد لانـــدس" حيث قال: "كان ماكس فيبر على صواب، وذلك بقوله: لو علمنا شيئا من تاريخ التنمية الاقتصادية فالثقافة هي المعنية تقريبا"، وقولة لاندس إنما تؤكد تلك العلاقة الوطيدة بين الثقافة والتنمية المحلية ونفس الشيء ذهب إليه الياباني "بوشيهارا كيونيو" بقوله: "إن أحد أسباب تطور اليابان هو أنها تملك ثقافة مناسبة لذلك"، ثقافة تهدف إلى العمل الجاد والإدخار للمستقبل والاستثمار في التعليم وقيم المجتمع. وإذا كنا نتطلع إلى مستقبل جديد لمجتمعنا، فهذا التطلع لن يكون بعيدا عن الثقافة، ودورها الحيوي في التنمية الاجتماعية والتطوير الشامل. فالثقافة لها فاعلية لا يمكن قياس درجتها وحجمها ومساحتها وزمانها، بل ولا تعادلها أي قوة أخرى، والحضارات إنما تنهض بالثقافة لا بغيرها، وهذا ما حاول مالك بن نبي أن يسطره في كتابه "قصة الحضارة" والذي وضع معادلة للحضارة تتجلى في:

الحضارة = إنسان + زمان + تراب.

والإنسان إنما يحقق كينونته في التراب مع مرور الزمان؛ وبالتالي فهذه المقومات تدخل كلها تحت لواء الثقافة، وبعبارة أخرى؛ الحضارة هي تطوير الثقافة. إضافة إلى أنه لا يمكن أن نتصور تاريخا بلا ثقافة، فالشعب الذي يفقد ثقافته يفقد تــاريخــه، والثقافة بما تتضمنه من فكرة دينية انتظمت الملحمة الإنسانية فـــي جميع أدورها من لدن آدم، وهذا قد يجعلها علما يتعلمه الإنسان، بل هي محيط يحيط به وإطار يتحرك داخله، فهي تغذي جنين الحضارة في أحشاء الإنسان، إنها ذلك الوسط الذي تتكون فيه جميع خصائص المجتمع المتحضر، وهي الوسط الذي تتشكل فيه كل جزيئة من جزيئاته تبعا للغاية العليا التي رسمها المجتمع لنفسه، بما في ذلك الحداد والفنان والراعي والعالم والإمام، وهكذا يتركب التاريخ. إن الثقافة هي تلك الكتلة نفسها بما تتضمنه من عادات مجانسة، وعبقريات متقاربة، وتقاليد متكاملة، وأذواق متناسبة وعواطف متشابهة، وبعبارة جامعة؛ هي كل ما يعطي للحضارة سمتها الخاصة ويحدد قطبيها، من عقلية بن خلدون، وروحانية الغزالي، أو عقلية رونيه ديكارت وروحانية جان دارك، هذا هو معنى الثقافة في التاريخ وكذا علاقتها بالحضارة، علاوة على ذلك فالحضارة الإسلامية إنما نهضت بقانون "اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الذِّي خَلَقْ"، وإذا كان لكل أمة هويتها الخاصة، فإن الثقافة هي التي تنسج هذه الهوية وتبني ملامحها الأساسية. والثقافة في هذا الصدد ترتبط بشكل وثيق بالتاريخ والهوية والتراث والأعراف والعادات والتقاليد والأشعار وكل أنواع الآداب التي بلورتها المجتمعات الإنسانية كما برهنت على ذلك دراسات علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية، وليس هناك تطور بلا ثقافة ولا تنمية بلا ثقافة.

إن أي تقدم ننتظره لمجتمعاتنا في الجنوب الشرقي لن يكون بعيدا عن مشاركة الثقافة، وهذا التقدم لا بد أن يسبقه تطور ثقافي محض يرفع مستوى الناس إلى الاستعداد لخلق تطور جديد، وهذا يعني أن أهم معوقات التطور الاجتماعي هو محدودية الثقافة أو غيابها. وفي الآونة الأخيرة عرف المجتمع المحلي تحولات اجتماعية واقتصادية وديمغرافية غير متوازنة، لأنها تفتقر إلى عملية ثقافية تضبط هذه التحولات النوعية وتوازنها بشكل يقلل من مضاعفاتها السلبية، علما أن مجتمعاتنا في اليوم ما فتئت تعرف تحولات ومفاجآت في اتجاهات مختلفة متوقعة وغير متوقعة، ولهذا فالبناء الاجتماعي نتيجة طبيعية ومنطقية لتراكم ثقافي ومعرفي، ومن دون هذا التراكم فليس هناك بناء للإنسان والمجتمع. والمشكلة عندنا هي أن الإنسان قد يميل إلى المظهر ويغفل عن الجوهر ولا يعيش الثقافة في حياتها، ولا يكاد يقترب منها بصعوبة، وهذا يصدق على مختلف أشكال وأنماط الثقافة، ومازالت الثقافة تعيش على هامش الحياة وتحتل المراتب ثانوية، حيث المادة تغلب على كل شيء.

وفي ظل التطورات والتحديات الراهنة المطروحة بإلحاح على مجتمعاتنا، يبدو الحديث حول قضايا الثقافة والتنمية من موجبات المرحلة وضرورة الراهن، وذلك لكي تساهم المضامين الفكرية والثقافية والمعرفية في توجيه حركة الواقع، وصولا إلى صياغة مستقبل الأمة والعالم. وليس ثمة إمكانية لمغادرة المشاكل التي تعتصر واقعنا وتكبله بالعديد من القيود، إلا بتأسيس سياق اجتماعي ثقافي قوامه تطوير العلاقات بين ما هو ثقافي وبين ما هو تنموي، إذ لا تنمية حقيقية في أي حقل من حقول الحياة، إلا بتنمية ثقافية تحفز الجميع وتطور مواهبهم وتصقل كفاءاتهم، لكي يشتركوا بــإرادة مستديمة في كل مشروع تنموي بناء وهادف. فإذا أردنا تحقيق التنمية فما علينا إلا أن نتشبث بكل الأسباب ذات البعد التطوري في الحقل الثقافي ونفسح لها المجال للمشاركة في الحياة العامة، ولهذا وفي هذا السياق فالثقافة فعل تنموي بامتياز.

واستقراء لما سبق فإننا في هذا الصدد سنحاول أن نتطرق إلى الاكراهات والصعوبات والتحديات التي تعد حاجزا منيعا أما تنمية محلية مستدامة، مع أننا سنصنف هذه الصعوبات إلى ما هو طبيعي تتحكم فيه قوة الطبيعة وما هو اقتصادي تفرض المادة سلطتها عليه وما هو سياسي واجتماعي أيضاً. علاوة على أننا سنقدم إجابات علمية لواقع التنمية وعلاقها بالتراث الشعبي وكيف سيقودنا هذا الأخير إلى تحقيق تنمية محلية هادفة. والتي ترمي إلى تجاوز كل التحديات من أجل تحقيق العيش الكريم لمختلف الأعراق والقبائل التي تعيش في الجنوب الشرقي المغربي.

1.التحديات الطبيعية:

إن المناخ السائد في الجنوب الشرقي المغربي هو مناخ شبه صحراوي، وهذا ما سيجعل من الجنوب الشرقي يعرف منسوب تساقطات قليلة وغير منتظمة مما سيؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة في فصل الصيف وانخفاضها بشكل كبير في فصل الشتاء، وأمام مشكلة الجفاف وندرة المياه وخاصة في المناطق الجنوبية وبالتحديد منطقة فركلة الكبرى وغريس والرشيدية والنواحي. علاوة على أن منطقة فركلة الكبرى تعاني من ظاهرة التصحر أو ما يعرف بزحف الرمال على المساحات الخضراء والواحات، وبالتالي فإن هذه الظاهرة تحد بشكل كبير الإمكانيات التي توفرها الموارد المحلية في سبيل الاستجابة لحاجيات ومتطلبات الساكنة، وهذه الظاهرة أيضا ترجع سلبا على الفرشات المائية والخطارات التي توجد في المنطقة، أضف إلى ذلك كون الفيضانات تعمل كل سنة على تعرية وجرف عشرات الهكتارات من الأراضي الخصبة والصالحة للزراعة والتي توجد على ضفاف الأودية، تنضاف إلى ذلك ندرة المياه وكثرة الرياح القوية وارتفاع درجة الحرارة صيفا وانخفاضها شتاء، مع العلم أن المنطقة لا تعرف سوى فصلين فقط؛ فصل الشتاء وفصل الصيف. هذه جملة من الإكراهات

والتحديات الطبيعية التي تعرفها منطقة الجنوب والشرقي وفركلة الكبرى (تينجداد) على وجه الخصوص، وبالتالي تبقى التنمية في ظل هذه الإكراهات أمرا صعبا.

2.التحديات الاقتصادية:

من الصعب أن نتحدث عن تنمية اقتصادية في الجنوب الشرقي المغربي، وذلك لكون هذا المجال لا يضم مراكز صناعية كبرى ولا ورشات ولا معامل صناعية ضخمة، والتي من شأنها أن تمتص تلك النسبة المهولة للبطالة والفقر المنتشر بشكل واسع في المنطقة. ولهذا تبقى إشكالية التنمية في هذا المستوى بعيدة التحقق بشكل أو بآخر.

3.التحديات الاجتماعية:

يبلغ العدد الإجمالي لساكنة جهة درعة تافيلالت حوالي مليون وستة مئة وخمسة وثلاثين ألفا وثمانية نسمة (1635008 نسمة) حسب إحصاء ألفين وأربعة عشر (2014). لكن هذه الساكنة من الناحية الاجتماعية تعاني من عدة صعوبات من بينها: تدني مؤشر التنمية البشرية والذي يتجلى في: الدخل الفردي وأمد الحياة وعتبة الفقر، إضافة إلى بنية تحتية هشة، سواء الطرقية أو الصحية، كذلك ضعف المرافق والتجهيزات الأساسية، وارتفاع نسبة البطالة والفقر، وقلة المؤسسات التعليمية العمومية وهذا ما نتج عنه الهدر المدرسي وارتفاع نسبة الأمية، ...

وكل هذه الإكراهات التي يعرفها المجتمع لن تقودنا بطبيعة الحال إلى إحداث تنمية محلية مستدامة.

وهنا يكمن دور الثقافة والتراث الشعبي، وذلك بكون الثقافة الشعبية تمتلك آليات فعلية تمكنها من خلق تنمية محلية، إذا ما تم توجيه هـذه الثقافة توجيها ينسجم وتأهيل المنطقة عبر إبراز القوة الكامنة في الإنسان والتي اكتسبها من أجداده عبر مر العصور، لذلك فالتراث الشعبي في حالته الغنية والمتنوعة هذه سيساهم في إدخال العملة الصعبة من خلال المناطق السياحية المتنوعة والمراكز التي يتم فيها إنتاج الأفلام السينمائية والعادات والتقاليد والمهرجانات الثقافية والمواسم والتظاهرات الاجتماعية والأشعار التي تحمل في طيتها حكما وعبرا والرقصات الشعبية والأزياء.. كل هذا وغيره يستلهم عقول السياح وحتى الباحثين الأنثروبولوجيين الذين يهتمون بدراسة المجتمعات الإنسانية. ومنه فالثقافة والتراث الشعبي طريقنا نحو تحقيق تنمية محلية مستدامة، وذلك لـــن يتحــقق إلا إذا اهتممــــنا كــــل الاهتمـــــام بالثقافــــة وبالمــــوروث الإنسانـــي والطبيعـــي الذي أفرزته الأجيال جيلا بعد جيل.

ومنه يجب توظيف هذا الموروث الشعبي بكل معطياته الميثولوجية والأنثروبولوجية من أجل الرقي بهذا الإنسان وخدمته والاعتراف به في كينونته وقيمته الوجودية، وكذا توجيهه نحو تنمية مستدامة تتماشـــى والبنية الذهنية والثقافية للمجتمع في الجنوب الشرقي المغربــــــي.



عبد الإلــــه بــــامو