قدّم الإعلام الجديد مبادرات على مستويات مختلفة؛ وطرق تواصل حملت معها وعوداً هائلة ومخاطر كبيرة ايضا؛ منها إنتشار الجرائم الالكترونية العابرة للحدود وإستخدام وسائل التواصل في الترويج للعنف وتجنيد الشباب عبر خطاب الكراهية الذي تمارسه الجماعات الجهادية عبر العالم؛ ولقد إنتبهت كثيرا من دول العالم لهذه المتغيرات وبدأت في إتخاذ خطوات جدية لمراقبة الانترنت وخصوصا الحسابات الشخصية؛ والتدخل عند الضرورة لحماية المجتمع من أخطار الارهاب والتطرف؛ بموازاة إطلاق حسابات لنشر الخطاب المعتدل ومواجهة الافكار المتطرفة على نحو خاص.

ولمواكبة تلك الجهود؛ علقت شبكة "تويتر" أكثر من مليون حساب منذ عام 2015؛ بسبب ترويجها للإرهاب؛ وأشارت إلى أن جهودها جعلت منصة التواصل الاجتماعي مكانًا غير مرغوب فيه للدعوة إلى العنف؛ وقالت الشبكة في تقريرها الأخير للشفافية؛ أن حظر الحسابات التي تدعو للعنف أدى الى تحول كبير في هذا النوع من الأنشطة بعيدًا عن "تويتر"؛ كما رصدت تقارير رسمية عربية ودولية آلاف "الحسابات السوداء" الوهمية التابعة للجان الكترونية تحركها أجهزة الاستخبارات في بعض دول المنطقة؛ لبث الفتن ونشر الفرقة والاكاذيب؛ مؤكدة أن تلك الحسابات تقوم على تدشين "هاشتاجات" مسيئة لأنظمة الدول وأيضا محرضة ضد الشعوب؛ لتتحول الى "تريند" فى كل دولة؛ وبالتالى نشر أخبار كاذبة ومضللة تهدف لزعزعة استقرار الدول المستهدفة.

وفي مصر ضبطت السلطات خلال عام 2017 فقط؛ 1045 صفحة الكترونية على "الفيس بوك" تحرض على العنف وقتل ضباط الجيش والشرطة؛ وكشفت التحقيقات أن القائمين على تلك الصفحات يديرون مئات الصفحات على "الفيس بوك" بمسميات مختلفة؛ للتحريض على العنف والدعوة للاحتشاد فى مسيرات وإغلاق الطرق؛ وضبطت السلطات في العام ذاته 2370 قضية سب و1632 قضية إساءة و193 قضية نصب من خلال الانترنت و77 قضية اختراق حسابات شخصية؛ كان أخطرها ضبط شخص قام باختراق 360 جهاز حاسب آلي وإبتزاز اصحابها ماليا!!

وعلى هذا النحو؛ فقد باتت الجريمة الالكترونية خطرا كبيرا؛ ليس من الحكمة تجاهله أو الادعاء بعدم وجوده خوفا من الاتهامات الجاهزة بمحاصرة الحريات الشخصية أو التضييق على حرية الرأي والتعبير؛ فالثابت أن حرية الانسان تتوقف عندما تبدأ حرية الاخرين؛ والثابت أيضا أن استخدام التكنولوجيا في الترويج للعنف والكراهية هو عدوان على المجتمع وسلامته وأمنه ومصالحه؛ مثلما أن التضييق على حرية التعبير هو عدوان على حرية الانسان في إبداء رأيه والتعبير عن أفكاره؛ ومن هنا يقع على المشرع مسئولية كبيرة في تحقيق التوازن بين حق الحرية وجريمة التحريض وبين إبداء الرأي وجريمة التشهير والاساءة؛ فلا حرية بدون مسئولية.

ووفق هذه الرؤية صدر القانون رقم 180 لسنة 2018؛ الخاص بتنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر؛ الذي أقره مجلس النواب وصدق عليه الرئيس عبدالفتاح السيسي ونشر في الجريدة الرسمية قي الاول من سبتمبر الجاري؛ وهو قانون إنطلق من رؤية واضحة تقوم على مبدأين:

الاول: التصدي للثغرات والاختلالات في منظومة الاعلام في البلاد؛ لضبط الاداء الاعلامي وإستعادة الريادة الاعلامية كجزء من جهود الاصلاح الشامل الذي تتبانه مصر وأدت الى فرض الامن بعد سنوات من الفوضى؛ وإقتلاع جذور الارهاب ومحاصرة قوى التطرف؛ وتحقيق معدل نمو اقتصادي إقترب من 6 في المائة، وعودة الحركة السياحية الى معدلاتها الطبيعية؛ حيث حققت مصر العام الجاري أعلى نسبة نمو سياحي في العالم؛ وتحسن ترتيب مصر في مؤشر التنافسية العالمي الذي يصدره “المنتدى الاقتصادي العالمي”؛ للمرة الاولى منذ خمس سنوات، وهو اعتراف دولي بتحسن كافة المؤشرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد.

المبدأ الثاني: الاستجابة لإرادة المجتمع وطموحات الجماعة الصحفية والاعلامية في مصر لاعادة تنظيم صناعة الاعلام وفق قواعد الادارة الحديثة والمحاسبة، بعد إطلاع على تقييم جاد للتجارب الدولية الرائدة في مجال الاعلام، بما يضمن وقف الفوضى الاعلامية وتطوير الاداء الاعلامي وضمان حياد وسائل الاعلام وتعبيرها عن مختلف الآراء والاتجاهات السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية في المجتمع، وتوفير الضمانات لحماية حرية الاعلام واستقلاليته؛ وإعادة تنظيم المهنة وتقنيين اوضاع الاعلام الرقمي…الخ؛ وضمان إحترام مواثيق الشرف.

ورغم ما وفره القانون من ضمانات توازن بين حق المجتمع في إعلام مهني ومحايد ونزيه؛ وحق الصحفيين والإعلاميين في الحصول علي المعلومات وضمان استقلال الهيئات الإعلامية والمؤسسات الصحفية والتنظيمات النقابية، وهي: “نقابة الصحفيين” و”نقابة الاعلاميين”، التي خرجت الى النور مؤخرا؛ فقد تعرض القانون لادعاءات غير صحيحة في بعض وسائل الاعلام؛ إنحصرت في المادة “19” من القانون؛ والتي جرمت؛ لاول مرة؛ نشر أخبار كاذبة والتحريض على العنف والكراهية والعنصرية والطعن فى أعراض الأفراد وإمتهان الأديان؛ سواء قام بذلك صحيفة او موقع اخباري او قناة تليفزيونية أو موقع الكترونى شخصى أو مدونة الكترونية شخصية أو حساب الكترونى شخصى يبلغ عدد متابعيه خمسة آلاف متابع أو أكثر.

والواضح أن هدف تلك المادة هو حماية المجتمع والحياة الخاصة للافراد وصيانة الاعراض والاديان ووقف التحريض على العنف التي تمارسها بعض الحسابات الالكترونية؛ وليس التضييق على حرية الرأي والتعبير؛ وهو توجه جديد تأخذ به الكثير من دول العالم بما فيها دول ذات تجارب ديمقراطية عريقة؛ ولا يعد هذا التوجه تضييقا على الحريات كما يدعي البعض؛ لكنه تضييق على الفوضى وسوء استغلال الحق في التعبير في الترويج للعنف؛ خصوصا مع التحديات التي تواجهها البلاد بسبب مخاطر الارهاب؛ والتوسع غير المسبوق في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وما بات يعرف بالاعلام الجديد الذي كان يعمل بدون ضوابط؛ حيث تضاعف عدد مستخدمي الانترنت في مصر خلال الاعوام الثلاثة الاخيرة الى نحو 48 مليون مستخدم عام 2018؛ مقابل 33 مليون عام 2017؛ و26 مليون مستخدم عام 2016؛ ووصل عدد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي؛ فيس بوك وتويتر وإنستجرام وغيرها؛ الى نحو 45 مليون شخص.

وتبدو تلك الرؤية أيضا في المادة الواحدة والعشرين من القانون؛ والتي حظرت تناول ما تتولاه سلطات التحقيق أو المحاكمة على نحو يؤثر على مراكز من يتناولهم التحقيق أو المحاكمة؛ والمادة الثانية والعشرين والتي الزمت الصحيفة أو الوسيلة الإعلامية أو الموقع الإلكترونى؛ بنشر تصحيح لما تم نشره أو بثه خلال ثلاثة أيام من ورود طلب التصحيح؛ والمادة الرابعة والعشرين والتي اعطت لذوي الشأن حق التظلم إلى “المجلس الأعلى لتنظيم الاعلام”؛ لاتخاذ ما يلزم لنشر التصحيح؛ ما لم تلتزم الصحيفة بالنشر؛ والمادة التاسعة والعشرين التي حصرت العقوبات السالبة للحرية في ثلاثة حالات فقط؛ التحريض على العنف والتمييز بين المواطنين والطعن فى أعراض الأفراد.

وفي المقابل نص القانون على ضمانات غير مسبوقة للصحفيين والمؤسسة الصحفية؛ حيث أكدت المادة الثانية أن الدولة تضمن حرية الصحافة والإعلام؛ وحظر المادة الثالثة منه فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام بأي وجه؛ وحظر مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها؛ وإستثنى من ذلك زمن الحرب أو التعبئة العامة؛ والذي أجاز فيه؛ استثناء؛ فرض رقابة محددة عليها؛ وأعطى لذوى الشأن في حالة فرض رقابة الطعن على قرار الحظر أمام محكمة القضاء الإدارى؛ وإعترف القانون لاول مرة بالاعلام الرقمي؛ مؤكدا في المادة السادسة أن تأسيس مواقع إلكترونية أو إدارتها أو إدارة مكاتب أو فروع لمواقع إلكترونية تعمل من خارج الجمهورية؛ تعمل بعد الحصول على ترخيص بذلك من “المجلس الأعلى لتظيم الاعلام”، ووفق الضوابط والشروط التى يضعها فى هذا الشأن.

وضمن القانون أيضا إستقلالية العمل الصحفي من خلال توفير ضمانات لحماية الصحفي أثناء أداء عمله؛ حيث نصت المادة السابعة على ان الصحفيين والإعلاميين مستقلين فى أداء عملهم لا سلطان عليهم فى ذلك لغير القانون؛ وأكدت المادة الثامنة عدم جواز أن يكون الرأى الذى يصدر عن الصحفى سببًا لمساءلته، كما لا يجوز إجباره على إفشاء مصادر معلوماته؛ ولحماية استقلالية عمل الصحفي ايضا؛ أكدت المادة الثلاثين عدم جواز أن يتخذ من الوثائق والمعلومات التى يحوزها الصحفى دليل اتهام ضده فى أى تحقيق جنائى؛ ما لم تكن حيازتها أو طريقة الحصول عليها جريمة؛ وحظرت المادة الواحدة والثلاثين تفتيش مكتب أو مسكن الصحفى بسبب جريمة من الجرائم التى تقع بواسطة الصحف أو وسائل الإعلام، إلا فى حضور أحد أعضاء النيابة العامة؛ وإشترطت المادة “32”، لمعاقبة الصحفى جنائيًا على الطعن فى أعمال موظف عام، أن يكون النشر كان بسوء نية ولا أساس له من الصحة أو كان عديم الصلة بأعمال الوظيفة.

ونص القانون على حق الصحفي في الحصول على المعلومات؛ والزمت المادة الناسعة الجهات الحكومية بتمكين الصحفى من الحصول على البيانات والمعلومات والأخبار، وحظرت المادة العاشرة فرض أى قيود تعوق توفير وإتاحة المعلومات أو تحول دون تكافؤ الفرص بين وسائل الإعلام في الحصول عليها أو فى حقها فى الحصول على المعلومات؛ واكدت المادة الثانية عشر على حق الصحفى فى حضور المؤتمرات والجلسات والاجتماعات العامة؛ وإجراء اللقاءات مع المواطنين، والتصوير فى الأماكن غير المحظور تصويرها.

وتطرق القانون بإستفاضة الى حقوق الصحفي والاعلامي المهنية؛ حيث ألزمت المادة الثالثة عشر كل صحيفة أو وسيلة إعلامية بتوقيع عقود مع الصحفيين أو الإعلاميين عند التحاقهم بها؛ يحتكم إليها الطرفان عند الخلاف؛ ونصت على عدم جواز إجبار الصحفى على القيام بأعمال تتناقض مع السياسة التحريرية المعلنة؛ وألزمت المادة الرابعة عشر جهات العمل أن تتضمن تلك العقود: نوع العمل ومكانه والمرتب وملحقاته والمزايا التكميلية والترقيات والتعويضات؛ كما ألزمت المادة الخامسة عشر المؤسسات الصحفية والإعلامية بالتعاون مع النقابة المعنية؛ بإنشاء وتمويل صناديق للتأمين ضد العجز والبطالة.

وإمتدت المظلة القانونية للصحفيين الى حظر فصل الصحفى أو الإعلامى من عمله إلا بعد التحقيق معه وإخطار النقابة المعنية بمبررات الفصل؛ وفق نص المادة السادسة عشر والتي نصت على أن تقوم النقابة بمساع للتوفيق بين الصحفي وجهة عمله؛ وفي حالة ما إذا إستنفذت النقابة مرحلة التوفيق دون نجاح؛ تطبق الأحكام الواردة فى قانون العمل بشأن فصل العامل؛ ولا يجوز وقف راتبه أو ملحقاته خلال مدة التوفيق.

وفي الاطار نفسه؛ ألزمت المادة السابعة والثلاثين المؤسسات الصحفية المملوكة ملكية خاصة؛ أو الصادرة عن الأحزاب السياسية أو الموقع الالكترونى الصادر عنها؛ أن تودع عن كل صحيفة صادرة عنها مبلغًا تأمينيا لا يقل عن مليون جنيه ولا يزيد على مليون ونصف المليون جنيه؛ بحسب دورية صدور الصحيفة؛ وذلك لسداد حقوق الدائنين فى حالة توقف الصحيفة عن الصدور؛ وفى هذه الحالة تكون الأولوية لسداد حقوق العاملين؛ ويزداد هذا المبلغ بنسبة 10 % كل خمس سنوات من تاريخ العمل بالقانون.


محمد فتوح مصطفى