بعد مصادقة مجلس الوزراء برئاسة الملك على قانون الخدمة العسكرية الجديد، الذي من المقرر أن يعرض على البرلمان لمناقشته، انقسم الرأي العام بين مؤيد أو معارض لهذا القانون؛ الشيء الذي يعكس عقدة التجنيد العسكري الذي ما زال يعتبر في مختلف الأوساط المغربية "كمصاب مخزني" ينبغي تجاوزه وتفاديه بكل الطرق والوسائل، سواء عن طريق التدخلات أو تحريك شبكة العلاقات القرابية الشخصية.

وتتناقض هذه العقلية تماما مع ما تجري به الأمور في دول أخرى، سواء الأوروبية منها أو غير الأوروبية؛ حيث ينظر إلى نظام التجنيد العسكري كمرحلة ضرورية في حياة كل مواطن لاستكمال شروط مواطنته وإجراء أساسيا في كل الدول العصرية في تربية مواطنيها وتنمية وعيهم السياسي وتقوية شعورهم بالانتماء الوطني، بالإضافة إلى تدريب شبابها وتلقينهم مبادئ الانضباط والعيش المشترك.

من هنا، يطرح التساؤل عن العوامل التي تؤثر في التعامل الحذر للمغاربة مع هذا النظام والدوافع الفكرية والنفسية التي تجعلهم لا يثقون فيه ويتجنبونه قدر المستطاع.

التجنيد العسكري كنظام إكراهي

من المعروف أن المخزن كان يعتمد، بالإضافة إلى جيشه النظامي، على قبائل الكيش التي كانت تشارك في المحلات والحركات المخزنية مقابل إعفائها من الضرائب والحصول على بعض الإقطاعات؛ لكن أمام تفكك الجيش النظامي بفعل القضاء على عبيد البخاري بعد تورط قادتهم في عدة انقلابات ضد بعض السلاطين العلويين، والهزائم التي تكبدها ما تبقى من هذا الجيش أمام الجيوش العصرية الفرنسية والإسبانية؛ بدأ التفكير في تحديث الجيش المخزني وعصرنته من خلال إرسال البعثات العسكرية إلى أوروبا واستقدام خبراء ومؤطرين أجانب وإنشاء مصانع للأسلحة الخفيفة.

وفضلا عن هذه الإجراءات تم التفكير في فرض التجنيد الإجباري للحصول على وحدات عسكرية، وكان من الصعب ضبطها بحكم ارتباطها بمعاشها وظروفها الاقتصادية والاجتماعية.

وهكذا، لجأ المخزن إلى فرض نوع من التجنيد العسكري الإجباري على القبائل والمدن؛ فقد كان "يعرض العدد الإجمالي لكل ناحية وحسب العدد الذي يفرضه المخزن كان كل عامل يحدد العدد اللازم لكل قبيلة وكل قائد قبيلة يحدد العدد الواجب لكل دوار أو جماعة وكل مقدم يحدد كل عائلة أو كانون ورئيس كل قبيلة يعين الأفراد الملزم تقديمهم ".

ولعل اللجوء إلى هذه العملية كان يفتح الباب لعدة تعسفات في اختيار الأفراد الذين يخضعون للتجنيد العسكري؛ حيث لا يتم في آخر المطاف إلا انتقاء الأفراد الذين لا يتمتعون بأي حماية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، وكانت السلطة وتحريك النفوذ يلعب دورا أساسيا في إعفاء الكثير من الشباب الذين ينتمون إما إلى عائلات كبيرة أو من أبناء الأعيان؛ ليتم الاكتفاء بتجنيد أبناء العائلات الفقيرة سواء في القرى أو في المدن.

ونظرا لهذه التعسفات وكذا لعدم استيعاب مكونات المجتمع المغربي التقليدي لأبعاد هذا النظام، كان "التجنيد الإجباري الذي فرضه المخزن يعاني من عدة مشاكل تمثلت في تهرب القبائل من تجنيد أفرادها، مما جعل المخزن يلجأ إلى اتخاذ عدة تدابير تشددية لإرغام القبائل على الانضباط وملازمة الجيش".

وهكذا كان يتم "إرسال العساكر المفروضة بالأكبال تجاه العاصمة وكيهم بالحديد المحمي حتى يحتفظوا بعلامة تسمح بالتعرف عليهم في حالة الفرار والقيام بحركات لجمع العسكر".

وقد أدت هذه الممارسات المخزنية إلى ارتباط التجنيد الإجباري في الذاكرة الشعبية بالإرغام والإكراه، وليس كإطار للتربية على الانضباط وتكوين المواطن الصالح والعصري .

ولعل مما زاد من تكريس هذا الفهم الشعبي استمرار السلطات حتى بعد الاستقلال على الاستمرار في اتباع نفس العملية الانتقائية المخزنية السابقة؛ فكان يتم غالبا انتقاء المرشحين للتجنيد العسكري وفق معايير تستند بالأساس إلى التركيز على الفئات من الشباب الذين انقطعوا عن الدراسة في مراحلها الأولى سواء كانت مرحلة ابتدائية أو ثانوية؛ وكونهم ينتمون إلى الفئات الشعبية الفقيرة سواء القروية منها أو الحضرية والذين لا يستطيعون أن يحركوا شبكة العلاقات القرابية والشخصية والإدارية لإعفائهم من هذا التجنيد بخلاف أبناء العائلات الأخرى التي يعفى في الغالب أبناؤها من هذا التجنيد؛ إما لأنهم يتابون دراستهم أو لأنهم يلجؤون إلى تدخلات معينة للإفلات من هذا النظام.

كما أن الأجهزة التي تتكلف بهذه العملية، والتي تتمركز بالأساس في أجهزة الداخلية والدرك الملكي، تحيط هذه العملية عادة بهالة من الخوف والرهبة تجعل المرشح للتجنيد وعائلته يعيشون "كابوسا حقيقيا" ينعكس خاصة من خلال نحيب الأمهات وهي يودعن أبناءهن اليافعين واعتبارهن بأن فلذات أكبادهن ستذهب إلى الحرب أو سيتم تجنيدها للقتال.

التجنيد العسكري كنظام تدجيني

إن إقرار هذا النظام في ظرفية سياسية دقيقة من تاريخ المغرب المعاصر وتطبيقه في منتصف الستينيات من القرن الماضي أدى إلى النظر إلى هذا النظام بالكثير من الشك في النوايا الحقيقية التي تكمن وراء تطبيقه، إذ إن إقرار تطبيقه تميز بالأساس بعدة سمات تشددية كانت تميز النظام في هذه الفترة والتي تتمثل في:

الصراع الشديد الذي كان محتدما بين النظام والمعارضة.

النفوذ الكبير الذي كان للعسكريين في السلطة، سواء في الأجهزة المركزية أو المحلية؛ فقد أسندت للعسكريين عدة مهام سواء في إدارة وزارة الداخلية أو الدفاع أو في تسيير العمالات وضبطها.

تحكم شخصية مثل الجنرال أوفقير أو الكولونيل الدليمي في الأجهزة الأمنية للبلاد.

فرض هذا التجنيد بعد سنة فقط من انتفاضة الدار البيضاء والتي عرفت مشاركة كبيرة من طرف الطلبة والشباب العاطل.

حالة الاستثناء الذي كان يعيشها المغرب آنذاك .

من هنا؛ فإن فرض هذا النظام في هذه الظرفية الدقيقة بمختلف هذه الملابسات جعلت الشباب المغربي، خاصة المنتمي إلى الفئات المتوسطة والفقيرة، يستشعر أن تطبيقه يخفي نية مبيتة في الضبط والتدجين. ولعل مما زكى هذا التخوف هو طرق التدريب العسكري الذي كان يخضع لها المجندون والتي كانت تتم في الغالب دون التمييز بينهم وبين الجنود الآخرين؛ فالطاعة العمياء والصرامة في تنفيذ الأوامر كانت هي الخصلة التي ينبغي اتباعها في هذه التداريب، وهو ما كان ينفر المجندون الشباب ويجعلهم يشمئزون من متابعة هذه التداريب مع الاحتفاظ بذكريات سيئة عادة ما ينقلونها إلى ذويهم وأقربائهم وأترابهم مما يزيد من نفور الشباب من التجنيد.

بالإضافة إلى ذلك، ففي إطار الصراع الذي كان محتدما بين السلطة والمعارضة؛ كانت هذه الأخيرة تعمد من خلال الجمعيات الشبيبية والمخيمات والمعسكرات التي تنظمها سنويا إلى تأطير أعضائها من الشباب وتلقينهم تداريب وأناشيد تستبطن إيديولوجيات هذه التنظيمات والتي كان ينظر إليها النظام بحذر شديد. لذا، فقد سعى النظام في مواجهة هذه الأشكال التأطيرية إلى فرض التجنيد العسكري لسحب البساط من هذه المعارضة والعمل على حرمانها من فرصة استقطاب قسم من هؤلاء الشباب وإبعادهم عن التأثيرات السياسية والإيديولوجية لأحزاب المعارضة.

كما استخدم نظام التجنيد العسكري في مواجهة بعض العناصر الراديكالية الشابة؛ خاصة تلك الحاصلة على شواهد عليا، إذ كثيرا ما لوحظ أنه بدل من إخضاع هذه العناصر لنظام الخدمة المدنية كان يتم إخضاعهم للتجنيد العسكري للحد من اندفاعهم التمردي ولجم تحركاتهم وحماسهم السياسي. إن نقل هذه العناصر من محيطها العائلي والعلائقي، ومن زخم الحياة السياسية الجامعية لعزلها في ثكنات عسكرية لاتباع الأوامر وقواعد الانضباط والطاعة كان الغرض منه إبعادها والاستفراد بها لإعادة "تربيتها". وبهذا الصدد، أشار عبد الحميد أمين، الرئيس السابق للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، إلى أنه قد تمت المناداة عليه للتجنيد العسكري قبل إتمام دراسته العليا، حيث شك في أن انتماءه للحزب الشيوعي المغربي وقيامه باعتصام أمام السفارة المغربية بباريس للاحتجاج على اعتقال نفي قيادة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب آنذاك هو الذي كان وراء الإسراع بتجنيده. ومما دعم شكه هذا هو أنه وجد بعد التحاقه بالثكنة العسكرية بالحاجب التي كانت مخصصة للمناضلين اليساريين، وجد "أغلب قادة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، كمحمد الحلوي وعمر الفاسي ومحمد الفاروقي ومحمد لخصاصي والطاهر بن جلون، حيث كانوا أول فوج يلتحق بالتجنيد بعد إصدار قانون الخدمة العسكرية في يونيو 1967.

التجنيد العسكري كنظام انتقائي

بخلاف الدولة العصرية الأخرى الذي يفرض فيها التجنيد العسكري على كل المواطنين بدون تمييز؛ فإن نظام الخدمة العسكرية بالمغرب بقى نظاما انتقائيا لا يشمل شرائح كل المجتمع. فبالإضافة إلى شرائح الشباب التي تعفى من أداء الخدمة العسكرية إما بسبب التزامات عائلية أو لمتابعة الدراسة؛ فهناك شرائح أخرى لا يشملها نظام التجنيد إما بسبب ضعف المستوى الدراسي أو كبر السن أو لاعتبارات أخرى.

ولعل مما يجسد ذلك المادة الرابعة من المرسوم المتعلق بالخدمة العسكرية الصادر في 20 مارس 2002، حيث ينص على ما يلي: "تقوم السلطة الإدارية المحلية بإحصاء جميع الأشخاص البالغين من العمر 19 عاما في سنة التجنيد والمتوفرين على مستوى دراسي لا يقل عن نهاية الطور الثاني للتعليم الأساسي وذلك وفق الشروط المحددة سنويا بقرار يصدره وزير الداخلية بعد موافقة السلطة الحكومية المكلفة بإدارة الدفاع الوطني. ويباشر كذلك إحصاء الأفراد المفروضة عليهم الخدمة العسكرية البالغين من العمر أكثر من 19 عاما والمتوفرين على تكوين مهني أو شهادات تخصص تقتضيها حاجات القوات المسلحة الملكية. ويحدد بقرار لرئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الملكية عدد الأفراد الواجب إحصاؤهم سنويا بالنسبة إلى كل فئة من الأشخاص المذكورين وتوزيعهم على الجهات والمؤهلات المطلوبة إليهم".

إن مضمون هذه المادة يحدد مجموعة من المعايير الانتقائية التي يتم من خلالها الاختيار الأولي للمرشحين للتجنيد؛ والتي تتمركز بالأساس على معيارين رئيسيين يتمثلان في السن والمستوى الدراسي.

وبعد هذا الاختيار الأولي، يخضع المرشحون لعملية ثانية للانتقاء حسب المادة 9 من هذا المرسوم والتي تنص على ما يلي: "يجب على الأفراد المفروضة عليهم الخدمة العسكرية الذين تم إحصاؤهم، والذين يجوز لهم تقديم طلبات تأجيل أو إعفاء أن يدلوا إلى لجنة الانتقاء التمهيدي بالوثائق القانونية المطلوبة. وتبت اللجنة في جميع حالات الإحصاء، وتعمل على القيام استنادا إلى الأوراق وباعتبار الإثباتات المقدمة، بالانتقاء التمهيدي للأشخاص الممكن تجنيدهم للقيام بالخدمة العسكرية الفعلية".

ومن خلال كل هذه العمليات الانتقائية يظهر بأن نظام الخدمة العسكرية قد تحول إلى "امتياز" في مجتمع ما زالت الأمية تستفحل ضمن شرائحه الشبيبة، إذ بهذه المعايير وهذه العمليات يتم عادة حرمان نسبة كبيرة من الشباب من شرف الخدمة العسكرية ومن فرصة التدرب على الانضباط والطاعة والاعتماد على النفس وتلقن مبادئ روح المواطنة. ولعل حرمان عدة شرائح من الشباب المغربي من فرصة التجنيد الإجباري واستبعاد عدة فئات من المغاربة من الخضوع للخدمة العسكرية هو الذي أسهم في هذا "التسيب" الذي يعرفه المجتمع المغربي؛ فكثرة حوادث السير، وسوء التصرف في الأماكن العمومية، وغياب النظام لدى جل الشرائح المغربية كلها مظاهر تعكس ضعفا في التربية الوطنية وانعدام الشعور الوطني نتيجة لتقاعس مؤسسات الدولة عن القيام بواجباتها التربوية. إن المدرسة والثانوية والجامعة يقتصر دورها على إعداد الأطر وتوزيع الشواهد قصد الحصول على العمل بدون الاهتمام بخلق الروح الوطنية لدى هؤلاء الأطر؛ والمؤسسة العسكرية لا تهتم إلا بتجنيد قسم معين من الشباب وفق معايير انتقائية خاصة وحسب احتياجات معينة. في حين تترك الغالبية الكبرى من الشباب لثقافة الشارع بمخاطرها وانزلاقاتها.

وبالتالي؛ فعلى الدولة بالمغرب أن تعيد النظر في دورها التربوي من خلال تحديد مهمات جديدة للمؤسسة التعليمية والمؤسسة العسكرية وباقي المؤسسات الأخرى التابعة لها حتى تقوم بدورها الأساسي في خلق المواطن المغربي العصري بتكوينه وأخلاقه وشعوره الوطني. وإن الشعور الوطني يكتسب ويلقن من خلال التربية والتكوين، وليس فقط من خلال توزيع الوثائق والبطاقة الوطنية.

إن قانون الخدمة العسكرية الجديد، وعلى الرغم من توقيته المفاجئ الذي أثار الشكوك حول خلفيته السياسية وبواعثه الضبطية، يمكن أن يشكل آلية في يد الدولة لإعادة تكوين مكوناتها الشبابية وتدارك بعض الانفلاتات التي اعتورت تنشئتها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية خاصة الفئات العمرية سن 19 و25 من الجنسين؛ لكن شريطة أن تتبلور هذه الآلية وتنفذ وفق رؤية شمولية تتغيا تكريس مجتمع للمواطنة خاضع لضوابط الانضباط في مختلف تجلياته العصرية والحداثية. وهكذا، ينبغي أن يعاد النظر في نظام الخدمة العسكرية من خلال:

- القطع مع تأرجح التعامل الرسمي مع هذه الآلية، حيث ينبغي ضمان استمراريتها واعتبارها آلية من آليات التنشئة على المواطنة وليس آلية ظرفية للتدجين وإعادة الضبط الأمني.

- التحسيس بأهمية التجنيد العسكري وانتزاع هالة الخوف والفزع المحيط به واعتباره كمرحلة من مراحل تكوين شخصية المواطن والمواطنة المغربية، من خلال تعبئة كل أدوات الاتصال الجماهيري لإقناع الشباب بأهمية هذه الآلية لاندماجهم الاجتماعي والسياسي، وفتح نقاش داخل الرأي العام حول هذه العملية.

- إخضاع كل الشباب من الجنسين بدون تمييز للتجنيد العسكري دون محسوبية أو زبونية أو أي اعتبارات أخرى، حيث لا يمكن أن يترشح أي كان لمنصب في الإدارة أو يتقلد وظيفة عمومية أو في القطاع الخاص إلا إذا كان في حالة تتفق ومقتضيات قانون الخدمة العسكرية. بالإضافة إلى احتساب مدة هذا التكوين في أي مسار إداري للمجند، وأخذها بعين الاعتبار في الترشح للمباريات العمومية أو شغل وظائف في القطاع الخاص.

- مراقبة مصالح وزارة الداخلية المشرفة على عملية الإحصاء والانتقاء والتجنيد، لتكريس وضمان سلامة عملية تجنيد الشباب، مع تقييم مرحلي لمردودية هذه العملية وتطويرها وفق المستجدات الاجتماعية .

- تقليص مدة الخدمة العسكرية من 12 شهرا إلى ستة أشهر، الشيء الذي سيشجع الشباب على الإقبال على هذه العملية من جهة، ومن جهة أخرى استيعاب أكبر للأعداد؛ فبدل 10 آلاف مجند ومجندة سنويا، سيتم تجنيد 20 ألف بنفس الكلفة المالية.

- استغلال عملية التجنيد لإنقاذ بعض الجانحين والجانحات بدون سوابق، إذ يمكن أن يسمح للقاضي لكي يحول عقوبة سجنية أو حبسية إلى عملية تجنيد عسكري يتم فيها إخضاع هؤلاء لضوابط الانضباط العسكري وإبعادهم عن التأثيرات السلبية للسجون والإصلاحيات.

د.محمد شقير