ما من شك بأن هناك أسبابا كثيرة، بل وملحة، تدعو للثورة على النظم الاستبدادية التي استأثرت بالسلطة والثروة ونشرت الرعب والظلم والفساد  في العالم العربي لفرض هيمنتها على الدولة والمجتمع. وقد بنيت هذه الأنظمة على أساس شبكة معقدة من المصالح المحلية والإقليمية والدولية، تجعل عملية التغيير بالغة الصعوبة والتعقيد، لكنها تبقى ممكنة إذا تم التعامل مع هذا الواقع بوعي وجدية وصدق.

فوجود أسباب موجبة للتغيير لا يكفي للقيام بتحرك -كيفما اتفق- تسوده العشوائية وتتحكم فيه ردات الأفعال ويفتقد إلى وعي على متطلبات عملية التغيير، إذ سرعان ما يتحول الحراك في هذه الحالة إلى عبء يستنزف أصحابه ويشتت جهودهم ويجعلهم عرضة للاستغلال لتحقيق مآرب الغير وخططه. يؤكد هذا، الفشل الذريع الذي آل إليه حال "الربيع العربي" بعد 7 سنوات من التضحيات الجسيمة والمحاولات المرهقة للخروج من النفق المظلم، كما هو واقع الحال في اليمن وليبيا وتونس ومصر والعراق وسوريا. إلا أنه ما زال بالإمكان تدارك الأمر إذا تمت مراجعة المرحلة السابقة وتدبر أسباب الإخفاق لتلافي الأخطاء والاستعداد لمواجهة التحديات، لاسيما بعد أن كشف الحراك الواسع -رغم إخفاقه إلى الآن- هشاشة الأنظمة الحاكمة في العالم العربي وتفاهتها.

ورغم اختلاف أشكال "الثورات" التي اندلعت في المنطقة، نستطيع أن نرصد عوامل إخفاق أساسية مشتركة فيما بينها، لا بد من تدبرها وأخذها بعين الاعتبار في سياق تصحيح مسار هذا "الربيع" أو تجديده أو -على الأقل- الاستعداد للحراك القادم، أهمها، إغفال حقائق الوضع السياسي للمنطقة وعدم الاتفاق على أجندة موحدة للبديل المطلوب.  

المفهوم الأول: حقيقة الواقع السياسي

يُعد العالم العربي أحد أهم المناطق وأكثرها حساسية في العالم، فهو قلب العالم الإسلامي وأمله في الوحدة والنهوض. وقد لعبت هذه المنطقة دوراً محورياً في تاريخ الأمة الإسلامية، وما زال يعول عليها في لعب دور محوري من جديد. كما يشكل الموقع الاستراتيجي لهذه المنطقة مفترق طرق أساسي يربط العالم ببعضه، فضلاً عن كونها منطقة تعج بالثروات ومصادر الطاقة الحيوية التي تهم العالم بأسره.

كذلك ينبغي التنبه إلى أنه تم إعادة تشكيل هذه المنطقة من جديد في القرنين الأخيرين وتم ربط كياناتها عضويا بمراكز صناعة القرار الدولي. ما يعني أن أي حراك لتغيير النظم الحاكمة في العالم العربي سيؤثر بشكل مباشر على المصالح الدولية، لارتباط هذه الأنظمة بأدوار مرسومة لها في خدمة تلك المصالح. لذلك صار أي عمل سياسي للتغيير في هذه المنطقة يعني مباشرة منازعة الدول الكبرى صاحبة النفوذ، ويستدعي تدخلها المباشر للحفاظ على مصالحها التي أقامتها على النقيض من مصالح أهل البلاد.

كذلك يجب ملاحظة أنه رغم تقسيم المنطقة وإنجاب كيانات منفصلة/مستقلة على أنقاض الدولة العثمانية ضمن اتفاقيات استعمارية دولية، وربطها بصناع القرار الدولي، ما زالت هذه الكيانات على صلة وثيقة ببعضها البعض، اجتماعياً واقتصادياً وأمنياً وسياسياً ودينياً. بالتالي، فإنه من الطبيعي أن يؤثر ما يجري في إحداها من تغيير سلباً أو إيجاباً على بقية الكيانات السياسية.

لا يقل أهمية عما سبق، ملاحظة تصاعد المد الإسلامي في المنطقة عموما، والذي يعتبره ساسة الغرب تهديداً إضافياً لهم. وعليه، فإن القوى الكبرى تتوجس خيفة أكثر من أي حراك إسلامي التوجه، لما يعنيه ذلك من تمدد وانتشار تأثيره على مستوى العالم الإسلامي برمته، لا العالم العربي فقط!

نخلص من هذا التوصيف إلى أن أي حراك جدي يتقصد التغيير الجذري في أي من الكيانات السياسية لهذه المنطقة، يجب أن يعد تصورات لمواجهة مؤامرات القوى الدولية والإقليمية صاحبة النفوذ فضلاً عن السلطات المحلية. لذلك توجب أن يستند التغيير إلى قوى أساسية وازنة في الدولة والمجتمع، إذ لا يكفي الحراك الجماهيري الأعزل، الذي يسهل سحقه أو احتواؤه أو حرفه عن مساره. وتعتبر مخاطبة الوسط السياسي والتواصل معه بشكل مستمر للتأثير بمكوناته وتوجهاته من أهم الأساليب لكسب هؤلاء في معادلة التغيير السياسي، وإلا تحول هؤلاء إلى رأس حربة في مواجهة عملية التغيير، ما يعني صراعاً محلياً مدمراً.

أضف إلى ذلك ضرورة التفكير خارج الإطار الوطني الضيق، والعمل على مدى مساحة واسعة عابرة للحدود الوطنية المصطنعة، لأن تكتيل جهود القائمين على عملية التغيير، والاعتماد على القوى الخاصة بالأمة، تقتضي توسيع دائرة الصراع مع النفوذ الأجنبي، ما يجعل إمكانية التصدي لمخططاته أوفر حظاً وأكثر تأثيراً. كما ينبغي إدراك أن علاج أغلب المشاكل المحلية المتعلقة بالكيانات المصطنعة أمر مستعص إن اقتصر الحل على اعتماد مصادر ومقدرات الكيان الذاتية بعيداً عن امتداده الجغرافي الطبيعي وتداخله مع محيطه السكاني. فقد أنشئت هذه الكيانات "الوطنية"  (بشكل مقصود) على نحو غير قابل للحياة، إلا من خلال حبل مربوط بعواصم صنع القرار في العالم الغربي.

كذلك فإن من أخطر الأفكار في العمل السياسي فكرة "تقاطع المصالح" بين قوى محلية تعمل للتغيير مع قوى إقليمية ودولية. فتقاطع المصالح يقع عادة بين قوتين متقاربتين من حيث الإمكانيات والمقدرات يحتاج كل منهما للآخر لتمرير أجندته. أما قيام شخصيات أو خلايا أو تنظيمات محلية بالعمل من خلال قوى دولية ضد أخرى، فإن ذلك يعني تسخير القوى المحلية في محرقة مماحكات الدول الكبرى وصراعاتها، وفي هذه الحالة، فإن الخسارة متحققة حتماً لأي حراك يسير في ركاب هؤلاء، حتى لو نجح مشروع التغيير، وهذا ارتباط عمالة حتماً لا تقاطع مصالح البتة، وجل ما يعنيه القيام بهكذا أعمال هو نقل العبودية من سيد قديم إلى سيد جديد. فالدول الكبرى كلها طامعة في بلادنا وفي مقدراتنا وثرواتنا ولن تدعنا نتحرر من براثن هيمنتها أبدا.

لا يقل عن ذلك سوءا العمل مع نظام محلي أو إقليمي ضد نظام آخر، بل هو أشد فتكاً، ذلك أن هذه الأنظمة لديها تبعية واضحة للجهات الدولية، ما يعني أن الارتباط بأي نظام سيرهن عملية التغيير بأجندات إقليمية فضلاً عن أجندات الدول الكبرى. كذلك فإن واقع هذه الأنظمة متشابه في الجوهر، وإن اختلفت في بعض مظاهرها، فهي دول محكومة لا حاكمة، وتخشى من نجاح أي تغيير حقيقي أكثر من خشية الدول الكبرى نفسها، لأن ذلك يعني انتقال عدوى التغيير إليها وتهديدها. لذلك فإنها لن تسمح لأي حراك بالنجاح إلا بالقدر الذي يبقيه مرتبطاً بها وبمن يقف وراءها.

المفهوم الثاني: المنظومة الفكرية البديلة

ذكرنا سابقاً، إنّ أي حراك يبتغي التغيير له أسباب ومحفزات، لكن الانطلاق في مشروع التغيير بدون وعي سياسي على طبيعة السلطة القائمة وعوامل قوتها وضعفها وارتباطاتها المحلية والإقليمية والدولية سيؤدي إلى استغلال مشروع التغيير من قبل القوى المهيمنة فعلاً والتحكم بأصحابه. لكن هذا الإدراك نفسه، والعمل بمقتضاه، غير كاف لإنجاز التغيير، إذ يجب أن يترافق أيضا مع بناء أسس فكرية واضحة المعالم من قبل القائمين على عملية التغيير لفرضها كأجندة مشتركة يتم تطبيقها كبديل لمجموعة الأفكار والقيم والقوانين المعمول بها. ولا يمكن أن تكون المنظومة الفكرية تلك بعيدة عن تاريخ الأمة وثقافتها وقيمها ودينها، وإلا فإنها ستكون منظومة فكرية هشة، لا جذور لها، تخص فئة معزولة. ولقد شاهدنا بأم أعيننا أن غياب الأجندة الفكرية المشتركة للقائمين على "الربيع العربي" والمشاركين فيه، أدى إلى انقسامات متتالية بينهم، تم استغلاله من قبل السلطات القائمة لتصفيتهم أو تهميشهم مجموعة بعد أخرى. وعندما نتحدث عن أسس فكرية للبديل المفترض إنجازه، فإنه يجب ترجمة هذا بالاتفاق على الحد الأدنى من الأفكار المتعلقة بنظام الحكم والقيم والقوانين الأساسية المنبثقة عن معتقدات الأمة وتصوراتها الإسلامية، التي يتصور صلاحيتها لتقويم أوضاعها ومعالجة مشاكلها. ويتوجب هذا تجاوز كل ما يقبل الاختلاف فيه، ورفع التفاصيل الدقيقة المطلوبة التي تستهلك الجهد والوقت لأصحاب الاختصاص للبت فيها، وتجنب استغراق القائمين على التغيير في التصورات الفرعية أو الهامشية مما لا وزن له في التأثير في الواقع، والتركيز عوض ذلك على ما لا مناص من بحثه وبلورته والعمل عليه لإنجاز التغيير.

***

خلاصة القول، إن العنت الذي واجهته الحراكات القائمة في العالم العربي، لم يكن بسبب صمود الأنظمة أو قوتها، أنما بما تتمتع به تلك النظم من حماية دولية جراء لعبها دوراً مشبوهاً في تأمين مصالح أساسية لتلك الدول، ولذلك كانت الحراكات القائمة في المنطقة موجهة ضد تلك المصالح وضد الدول التي يهمها استمرار تلك المصالح. ولهذا لم تعر الدول الكبرى أي اعتبار للمآسي ولأنهار الدماء التي تسببت بها تلك الأنظمة، إلا بالقدر الذي يحقق لها مخططاتها ويحفظ لها نفوذها، بل إنها غطت في كثير من الأحيان على جرائم الأنظمة فضلاً عن مشاركتها الفعلية بارتكابها مباشرة أحياناً أو من وراء ستار. فالأخلاق الإنسانية والقيم الرفيعة لا قيمة لها البتة بحسب المنظومة النفعية التي تحكم سياسات هذه الدول ومخططاتها. من ناحية أخرى، فإن الحراك المطلوب السير فيه يجب أن يكون تتويجاً لعمل سياسي وفكري دؤوب، ويجب أن يكون ثمرة جهد واعٍ ومدروس، لا مجرد هبة عاطفية تتفجر كردة فعل جراء أحداث معينة، يقفز عليها الهواة وطلاب الشهرة وأصحاب المآرب المشبوهة. من هنا كانت أهمية تكوين فهم سياسي حقيقي حول أي بلد يراد تحقيق التغيير فيه، من خلال تحديد تركيبة  النظام السياسي الحاكم فيه، وواقع ارتباطاته إقليميا ودوليا، مع ضرورة تبني أجندة فكرية واضحة المعالم منسجمة مع ثقافة الأمة وتطلعاتها ومتفق على صلاحيتها لتحقيق البديل المطلوب.

حسن الحسن