للمعرفة حرمة هي أقرب إلى القداسة، إن لم تكن هي القداسة عينها، يعرفها من نال شرف تذوقها عبر مراحل تعليمه كلها، أو بعضها، مذ كان ضيفا على حصير الكتاب، قبل أن ينتقل إلى مقاعد الدرس في الفصل ثم في مدرج الجامعة، محظوظ من تشرب تلك الحلاوة على صعوبتها، وشدة طقوسها أحيانا.

نعم، إنها المعرفة، قرينة القداسة والمطلق واللانهائي، هكذا كنا نحسها ونعشقها، فطلب المعرفة يعني طلب الحقيقة، وابتغاء الكمال الإنساني على صعوبته واستحالته، ولكن هكذا هي، وهذه سماتها وميسمها، ولذلك كانت مفرداتها أصعب المفردات وأشدها قولا ووقعا، العلم، الفهم، البحث، القراءة، السؤال، الجواب، التفسير، التحليل، التأويل، الحوار، النقاش، الجدل، المناظرة...

هل تقدر هذه الكلمات والمعاني بثمن؟ هل يمكن أن يوجد لها تقييم مادي؟ هل يمكن عرضها في المزاد للبيع؟ هل للبحث عن الحقيقة وعن الحق مقابل مادي؟

الجواب ببساطة وقوة هو، لا، والسبب واضح؛ فهذه السلعة لا تعرض في الأسواق لأنها ابتداء ليست سلعة، بل جهد وعرق، وفكر وتأمل، وصبر ومثابرة، وزهد ومجالسة، وقراءة ونظر، وتحرير وكشوف.

حضرتني هذه المعاني وأنا أتابع قصص الشواهد الجامعية التي أصبحت تباع، و"الماستر" الذي أضحى يساوي الملايين، وتساءلت كما تساءل غيري، هل يمكن أن يتحول البحث/العقل إلى بضاعة تعرض للبيع؟ ماذا يتبقى لصاحبه الذي اشتراه ولأستاذه الذي باعه، أو باع القبول بصاحبه عنده؟ وماذا لو طلب منه أن يحاضر مدافعا عن أطروحته المزعومة، مضمونا وشكلا، فكرا ومنهجا، سطرا سطرا، وكلمة كلمة، ومرجعا مرجعا، ومصدرا مصدرا؟ أليس هكذا يكون البحث العلمي، والجامعي بخاصة؟

إنه وضع مؤلم أن تتحول المعرفة/القداسة إلى مجرد أرصدة بنكية وأموال مطروحة في الطريق، ماذا يتبقى لنا إذن حين يخبو صوت المعرفة ويبهت عمقها الصوفي الجميل؟

لست أدري ما حجم هذه التصرفات، وما صورتها الحقيقية، المؤكد أن الأمر يستلزم بحثا في النازلة، فلا دخان بدون نار، ووضعية المعرفة وصويحباتها في بلادنا لا تحتاج إلى دليل.

الجامعة اسم جامع للمعارف كلها، من هنا اشتق اسمها (الجامعة)، كما علمنا أحد أساتذتنا الكبار يوما، فيها يفهم الطالب معنى أن يتعلم، ومعنى أن يدرك الأشياء، ومعنى أن يصبح له رأي وفكر ومنهج، هكذا عرفنا الجامعة، وربما كان ذلك من حسن حظنا، نحن جيل الثمانينات، رغم مرورنا العابر والمتواضع بفضاءاتها وردهاتها الحميمة، فرغم كل الإكراهات والإحباطات، التي كانت تحوطنا، أدركنا شيئا من تلك المتعة المقدسة، متعة المعرفة والبحث والسؤال، وما زلنا وسنظل، رغم بعد المسافة وطول الزمن، نقدر عاليا تلك القامات، وأولئك الشوامخ الذين أتحفونا بمعرفتهم وبسلوكهم العلمي معا.

كان مجرد الإنصات إلى أساتذتنا، والنظر إليهم وهم يتحدثون، نعمة لا تقدر بثمن بالنسبة إلى جيلنا الذي كان في عمومه يعشق المعرفة، كانوا كبارا في عقولنا وقلوبنا وما زالوا، وكيف لنا أن ننساهم وقد علمونا ما لم نكن نعلم، كيف لنا أن ننسى هؤلاء الأفذاذ والتحف في الدراسات الأدبية والنقدية: محمد مفتاح، محمد برادة، محمد بنيس، المرحوم ادريس بلمليح، أحمد أبو حسن، عبد الحميد عقار، أحمد اليابوري، عبد الفتاح كليطو، عبد الجليل ناظم، محمد بن شريفة، أمجد الطرابلسي، المرحوم علال الغازي.

في الفلسفة وتاريخ الفكر: عبد الله العروي، المرحومان محمد عابد الجابري وسالم يفوت، كمال عبد اللطيف، محمد بن سعيد العلوي، محمد وقيدي. في الدراسات الإسلامية: عبد المجيد الصغير، العراقي محسن عبد الحميد، فاروق حمادة، التهامي الراجي، والكثير الكثير.

كنا نحرص على الاستماع إلى الجميع، ومن مختلف التخصصات ووجهات النظر، وللواحد منا أن يتصور روعة المشهد وجلاله، وهو يتابع مناقشة رسالة جامعية من مستوى دكتوراه الدولة، وما أدراك ما دكتوراه الدولة آنذاك، بحضور نخبة من هؤلاء العلماء والمفكرين الأفذاذ.

هل يعني هذا أن الجامعة في أيامنا تلك كانت مجتمع ملائكة، طبعا لا، لكن ما كنا نسمع عنه أو نراه من أخطاء وهفوات لبعض أساتذتنا، لم يكن يشكل إلا الإستثناء والنادر، الذي يؤكد القاعدة، وهي أن الجامعة مهد المعرفة والبحث، والسلوك العلمي الكبير، وبامتياز.

وهل يعني هذا أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، طبعا لا، والدليل أن بيننا اليوم أساتذة لا يقلون شأنا عن سابقيهم، نقرأ لهم ونتعلم من عقولهم الكثير. إن أولئك الكبار علمونا لنأخذ عنهم، ووضعوا في أيدينا تلك النار المقدسة لنستمر بها في البحث عن الحق والحقيقة، لا لنبيعها في الأسواق، فهي ليست للبيع. إنها حرمة، والحرمة في اللغة هي المهابة، وما لا يحل انتهاكه.

 

إبراهيم أقنسوس