العراق الآن بلد قابل للاشتعال في أية لحظة. ليس لأنه يعوم على بحر من النفط، بل لأن ما فيه من أسلحة خفيفة ومتوسطة وثقيلة تكفي لقتل أضعاف ما فيه من البشر. إنه واحد من أكبر مخازن السلاح غير الشرعي في العالم.

لا يحتاج العراق إلى أن يستورد مزيدا من السلاح. غير أن سوق السلاح تتسع للمزيد لأن بضاعتها هي الأكثر رواجا.

لم تكن دموية التاريخ العراقي المعاصر دليلا على أن الشعب العراقي يميل إلى العنف. ربما لأن الدولة كانت دائما تحتكر ممارسة العنف. اما حين اختفت الدولة فقد ظهر ما لا نعرفه من ميول ذلك الشعب.

تلك نظرية تسندها وقائع الحروب الأهلية والمعارك العشائرية والاغتيالات والتصفيات والحروب الجانبية بين طرفين عراقيين التي صار العراق مسرحا لها منذ عام 2003. ولكن تلك النظرية بتطبيقاتها الواقعية قد تكون مجرد صناعة لا اصل لها في تاريخ الشخصية العراقية.

لربما دُفع العراقي إلى الانحراف عن بداهته وسليقته حين وجد نفسه مضطرا لحمل السلاح من أجل الدفاع عن نفسه في ظل غياب الأجهزة الأمنية التي تحميه والتي تحولت إلى مراكز للجريمة المنظمة.

العراقي الذي انتزعت منه مواطنته ولم يعد يرى في الدولة إلا غطاء للميليشيات التي تقض مضجعه في كل لحظة صار لا يجد في استعمال السلاح ما يُهين رجولته وما يثلب مروءته.

شيء من هذا القبيل حدث حين استأثرت لغة السلاح بالحوار بين أطراف، قُدر لها أن تنسج بإبر صغيرة السجادة المفخخة التي يمشي عليها سياسيو نظام المحاصصة الطائفية.

يوم أُحتل العراق عام 2003 تم فتح مخازن الجيش العراقي الذي أعلنت سلطة الاحتلال الأميركي عن حله ونهبت كل الأسلحة التي تراكمت عبر تاريخ طويل من الحروب.

اما الدولة الجديدة فقد تم تسليح جيشها الناشئ مرات عديدة. وكان ذلك الجيش يعاني دائما من نقص في السلاح. وهو ما لم تكلف الولايات المتحدة نفسها عبء السؤال عن السر الذي يكمن وراءه.

فالمواطن العادي كان على معرفة من أن السلاح كان يتسرب من مخازن الجيش بطريقة سلسلة إلى أسواق السلاح التي صارت رسمية.

أما لماذا يُباع السلاح علنا في أسواق مرخص لها رسميا، فذلك سؤال محظور، لأنه يصطدم بجدار الحق العام في امتلاك الأسلحة لفض النزاعات الفردية والجماعية التي أدارت الدولة ظهرها لها.

ففي الوقت الذي ألغيت فيه خدمة العلم الإلزامية صار العراقيون في حاجة إلى تعلم فنون استعمال السلاح، كونها تمثل نوعا من الامتياز الفردي.

شكل تسليح المجتمع وسيلة يسرت للميليشيات القادمة من إيران مهمة تجييش ذلك المجتمع. فقد يندم العراقي في لحظة ضيق مصيرية على أنه لم ينضم إلى حشود طلاب الفنون القتالية.

لقد تغير كل شيء في العراق وهو ما فرض تغيرا جوهريا على الشخصية العراقية التي كانت تميل في ما مضى إلى الشعر والرسم والموسيقى وحكايات الغرام ومنمنمات النقد المرحة.

ضُرب العراقي بمطرقة الدين بمروياتها الطائفية التي لا حدود لخرافاتها وأذلته السياسة الملحقة بمشروع الاحتلال بما فرضت عليه من خيارات محدودة لا يقبل بها إلا الانتهازيون والنفعيون ومحترفو الشعارات ونافخو الأبواق والمرتزقة وصانعو المفخخات.

عراقي اليوم وهو المضطر إلى حمل السلاح أو خزنه أو النظر إليه بحسرة لا يمكن القياس عليه للحكم على الشخصية العراقية التي كانت يوما ما دمعة طفل تسلمها إلى الضياع والحيرة والأسى اللانهائي.

العراق الذي وردت إليه إيران صواريخها البالستية وتخطط لإقامة مصانع محلية فيه لإنتاج المزيد من تلك الصواريخ هو ضحية مؤامرة، كان الهدف منها تسليم مواطنيه إلى الذعر والهلع والخوف ومن ثم التخطيط لاستعمال الشباب منهم في حروب عبثية ستشهدها المنطقة مستقبلا.

العراقيون هم حوثيو المستقبل.

لم تكن إيران وحدها قادرة على صنع مصير من ذلك النوع. كانت هناك أدوات عراقية هي المسؤولة وهي التي مهدت الطريق لإيران من أجل أن تحول العراق من مخزن للسلاح إلى معمل لصناعته. ولن يكون من باب التكهن القول إن نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق هو الرجل الذي يقف وراء ذلك التحول الذي يعد بحق من أكبر النكبات التي ضربت العراق.

فالمالكي الذي سلم الأسلحة الأميركية الحديثة إلى داعش يوم احتل ذلك التنظيم الإرهابي الموصل بعد هزيمة الجيش العراقي من غير قتال هو المسؤول الرئيس عن وقوع البلد كله في قبضة الحشد الشعبي، وهو تنظيم مسلح مجرم أُريد له أن يكون أيقونة للعراقيين في أزمنتهم الحديثة.

اما حين أُضفيت على ذلك التنظيم الإجرامي هالات القداسة فقد ضاعت فرصة العراقي لتأكيد انتمائه إلى الحضارة المعاصرة باعتباره صانعا للآداب والفنون والموسيقى والكتب ومبتكرا للأفكار والرؤى.

عبر المالكي بالعراق والعراقيين معا إلى ضفة الحرب من أجل أن يطبق نظريته التي تقوم على الصراع بين أنصار الحسين وأنصار يزيد. وهي نظرية لا يمكن أن ترى النور إلا من خلال السلاح.

العراق اليوم عبارة عن ثكنة عسكرية، ستعجز المنطقة كلها يوما ما عن إطفاء حرائقها.