وصلت سوريا إلى آخر الطريق في رحلة دفع ثمن عقد تركيا. مشكلة سوريا كبلد أنها انفجرت شعبيا في وقت يحكم فيه تركيا رجب طيب اردوغان. هذا جعل من تركيا، بحكم الموقع الجغرافي والتأثير، تبدو كأنها حل العقدة الأساسي، وعقدة الحل المحكمة في نفس الوقت.

لم تكن مشكلة تركيا، على مدار 7 سنوات من الثورة السورية، مع النظام. مشكلتها الرئيسية كانت طوال الوقت مع المعارضة. اردوغان اختار أن يسبح عكس تيار كل الدول الأخرى، بما فيها قطر، في اسلوب دعم المعارضة، وفي تحديد الأهداف النهائية من هذا الاستثمار المسموم.

في النهاية أوصلت سياسة أردوغان المعارضة ليصبح ظهرها إلى الحائط. معركة إدلب المنتظرة هي فقط تجسيد لهذه النهاية المتوقعة.

الفرق بين النتائج النهاية التي وصل إليه معسكر النظام، والمصير المؤلم الذي منيت به المعارضة، يكمن في أزمة أولويات أنقرة. النظام كان محكوما طوال الوقت بعقل مركزي يفكر ويخطط، وميليشيات ومقاتلين يلتزمون، على مختلف انتمائاتهم الجغرافية والقبلية والوطنية، بالاستراتيجية التوافقية التي تضعها إيران وروسيا والنظام السوري وحزب الله. على الجانب الآخر، كانت القصة مختلفة تماما.

ترك الدفة لقطر، منذ بداية الأزمة، وضع أسسا مبدئية خاطئة لاستراتيجية دعم المعارضة، التي من المفترض أن تستمر لسنوات. دخول السعودية على الخط لاحقا لتعديل مسار المعارضة كان متأخرا، ولم يكن بتفويض أميركي حاسم. الأميركيون خدعوا السعوديين ولم يمنحوهم توكيلا حصريا بإدارة ملف الصراع في سوريا، رغم حصرية الوعود. تركيا كانت دائما في الخلفية، بأجندة مغايرة وضبابية ولا تقوم أساسا على إسقاط النظام.

تنافس الداعمين للمعارضة كان يتمحور حول الاستقطاب والمفاضلة بين المتشددين أو الأكثر تشددا. المسألة تحولت، في لحظة من اللحظات، إلى ما يشبه المزاد. تركيا ربحت هذا المزاد دون مواجهة أي مقاومة.

العقيدة الأيديولوجية للنظام الإسلامي الذي يحكم تركيا، بالإضافة إلى قناعات أردوغان الشخصية، أزالت الحدود بين الممكن والمستحيل، فيما يتعلق بتعزيز صفوف مقاتلي المعارضة. اردوغان كان يؤمن أن العقائد القتالية "الباردة" التي تحكم الجيش الحر مثلا لم تكن كافية لإحداث فرق جوهري في مسار الصراع. هذه العقائد الباردة كان يجب أن يتم تسخينها.

أسهل وصفة لتسخين أي صراع هي أدلجته. إذا كان الداعمون الأساسيون الكبار نفسهم مؤدلجين، فما بالك بوقود المعركة المتمثل في المقاتلين "المساكين"؟!

فتح الحدود لدخول الجهاديين الأجانب والسماح بانضمامهم لصفوف داعش كان ضروريا، ليس لاسقاط النظام أو الحاق خسائر ببشار الأسد، لكن لأدلجة سوريا ما بعد الحرب، أيا كانت نتيجتها. أردوغان كان يعلم أن الغبار سيستقر يوما ما، والأسلحة ستعود إلى مخازنها، وضوضاء المدافع وأزيز الطائرات سيصمتان إلى الأبد. المسألة بالنسبة له لم تكن في نهاية الحرب، لكنها كانت في كيف ستنتهي.

أدلجة الغالبية السنية في سوريا كانت ستمنح أردوغان فرصة الانتقال من الاعتماد على أقلية تركمانية صغيرة على أسس عرقية محشورة في بقعة ضئيلة في الشمال، إلى الاعتماد على الأغلبية السنية على أسس عقائدية. هذا يحول تركيا إلى أكبر دولة تتمتع بالنفوذ في سوريا في مرحلة ما بعد الحرب، حتى لو بقي الأسد في السلطة. القبول باستقبال ملايين اللاجئين السوريين "السنة" على الأراضي التركية كان خطوة استراتيجية ضرورية ومؤقتة من أجل تشكيل حلقة النفوذ الأولى داخل حلقات المجتمع السوري الأوسع. عودة هؤلاء اللاجئين لاحقا، بعقلية تركية وبأيديولوجيا وعرفان كافيين لخلق ولاء مطلق لأردوغان، خطوة نهائية في خطة بناء نفوذ هي الأكثر راديكالية في تاريخ المنطقة.

بعد عام 2013، لم يعد أردوغان يفكر في إمكانية الإطاحة بالأسد أو النتائج المترتبة على بقائه. واقعيا، بدأ التخطيط الاستراتيجي في تركيا يتمحور حول حقيقة أن اسقاط النظام ربما لن يكون في صالحها. منذ ذلك الحين، ظهرت عقدة الأكراد، وبدأت، بشكل علني، تتحكم في محددات السياسة التركية في سوريا.

التدخل الروسي، الذي حول مسار الصراع بشكل جذري، خلق احساسا نفسيا بانعدام الأمن في تركيا. وقتها وجدت أنقرة نفسها غارقة في المستنقع السوري، بشكل خلق ازدواجية في إدارة الصراع. هذه المرحلة تجسدت في عدم امتلاك تركيا إمكانية المضي قدما لحسم أهدافها وحماية مصالحها بشكل نهائي، وفي نفس الوقت عدم القدرة على الانسحاب من الملف السوري خوفا من أن تخلق هذه الخطوة عدم استقرار داخلي.

بقاء تركيا في سوريا، كان يهدف لحسم ملف الاكراد بالطبع، لكنه بني أيضا على الرغبة في سد الفراغ الناجم عن الصراع. لم تكن هذه الحالة تعبيرا عن امتلاك تركيا استراتيجية دقيقة يمكن من خلالها إدارة هذا الفراغ، خصوصا في الشمال، لكنه عكس خشية من أن ترددها من الممكن أن يدفع أطرافا أخرى منافسة إلى سده مكانها. هذا بالضبط شكل السياسات التي تنجم عادة عن الإحساس بانعدام الأمن.

لم تجد تركيا بعد ذلك مفرا من الدخول في "تحالف الضرورة" مع روسيا، بصيغته المؤقتة. شكل هذا التحالف، الذي لم يكن أبدا تحالفا حقيقيا، نقطة اللاعودة في خروج تركيا عن مسارها الداعم للمعارضة. لم تكن هذه النتيجة الوحيدة لاختيار تركيا تخفيض سقف أهدافها في سوريا، منذ سيطرتها على مدينة الباب، ثم منطقة عفرين في توغل عسكري لاحقا.

الحقيقة هي أن تركيا كانت تتبنى سياسة تقوم على رد الفعل المصمم لكي يتناسب طرديا مع مقياس الصعود والهبوط لمواقف الولايات من نظام الأسد، والأزمة السورية بشكل عام. في نهاية فترة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، تخلت واشنطن عن استراتيجية تغيير النظام في سوريا بشكل نهائي، ولم يكن صدفة تراجع تركيا عن تبني هذه الرؤية في نفس الوقت تقريبا. التقارب مع روسيا أيضا كان رد فعل غريزيا من قبل اردوغان، لكن هذه المرة نتيجة توسيع نطاق الدعم الأميركي للأكراد في شمال سوريا.

العقد التركية الأربع، متمثلة في فتح الحدود أمام الجهاديين، وتركيز الاستراتيجية التركية على تحجيم الأكراد، والتحالف مع روسيا، والسياسة الملتبسة والبراغماتية في التعامل مع اللاجئين، أفضت إلى ارتباك تركيا، وقبولها بما كان ينظر إليه في السابق على أنه من المستحيلات بالنسبة لها. معركة إدلب ستمثل آخر حلقة في سلسلة التنازلات التركية، وسترسم ملامح بداية النهاية للحرب وهزيمة الرهانات التركية.

أزمة المعارضة السورية كانت في الاختيار الخاطئ. في مرحلة تعدد البدائل، خصوصا بعد تشكيل منصة الرياض، لم تكن المعارضة مستعدة لتبني خيار عربي، حتى لو كان مليئا بالثغرات. ألقت المعارضة بكل بيضها في سلة تركيا، وأغلقت أبوابا كان يجب أن تبقى مواربة. عندما غرقت سفينة الطموح التركي في سوريا، كانت المعارضة محبوسة في غرفة المحركات السفلى للسفينة، وتحولت إلى أول ضحايا الكارثة.

اليوم جاء الدور على إدلب كي تدفع ثمن عقد تركيا. المعركة باتت مسألة وقت. النقاشات الدائرة الآن بين الروس والأتراك والإيرانيين، وفي الخلف الأميركيين أيضا، تدور حول كيف سيكون مسار المعاركة ونتائجها النهائية، وليس هل ستنطلق أم لا. بغض النظر عما إذا كان سيناريو الغوطة وحمص ودرعا سيتكرر في إدلب أم لا، لكن المؤكد أن هذه هي المعركة الفاصلة التي ستضع حدا للحرب السورية، ولطموح تركيا في سوريا أيضا.

أحمد أبودوح