يقول احد الحكماء الانكليز "اذا لم تنجح الخطة التي بين يديك، غيّرها.. لكن ابدا لا تغيّر الهدف". قول حكيم حقا، لانه يدعو الى نبذ الجزع والضعف. فتغيير الهدف، يعني التخلي عن القضية، وبذلك تصبح الحياة بلا معنى.

مطلع هذا العام مرت الذكرى المئوية لولادة الزعيم جمال عبدالناصر، وفي تموز/يوليو الماضي، مرت الذكرى السادسة والستين للثورة التي نقلت المنطقة من واقع الى اخر، اختلف الكثيرون في تقييمه، وما زالت تداعياتها تتفاعل على المستويين السياسي والثقافي، بل وحتى الاجتماعي، لان اسقاطات الثورة، يصعب تجاوزها بسهولة، لاسيما انها شغلت اكثر من جيل، وشهدت خلالها مصر والدول العربية احداثا مفصلية كبيرة، من بينها العدوان الثلاثي العام 1956 ونكسة حزيران العام 1967 وغيرها من الاحداث المهمة التي توزعت اكثر من ميدان عربي ودولي.

بعد انهيار المعسكر الاشتراكي، حصلت عملية تصفية حساب واسعة، قامت بها مؤسسات ثقافية واعلامية مؤثرة في العالم، هدفها شيطنة الفكر الاشتراكي وتشويه صور رموزه وتسفيههم. بغية تهيئة الناس لمرحلة جديدة، أي تقبل الرأسمالية في نسختها الاكثر توحشا، ونقصد العولمة، واقتصاد السوق الذي ترك خلفه، منذ ان نشر ظله الثقيل على اقتصاديات العالم مطلع التسعينيات، اكثر من ملياري جائع، وتدهور مستمر في اقيام العملات للكثير من الدول، بما فيها ذات الرأسماليات الوطنية، المستقرة نوعا ما، ومازال مسلسل الخراب والحروب مستمرا والى اجل غير معلوم. ومن يبن الرموز المستهدفة، عبدالناصر وثورة يوليو.

مشروع عبدالناصر تجاوز كونه تنمويا فقط، بل كان مشروعا حضاريا، عمد الى بناء الدولة من خلال بناء الانسان، ونقل فكرة الوحدة من رفوف المكتبات الى الميدان السياسي، لذلك واجه تحديات كبيرة، داخلية وخارجية، وكثر اعداؤه فارتكب اخطاء وتعرض لانتكاسات، من دون ان تفقده حيويته او تقتله في نفوس الجماهير التي تفاعلت معه وهو في اصعب ظروفه، لانه يعكس جوانياتها المكبوتة وتطلعاتها الكبيرة، فكان محط اهتمام النخب التقدمية، التي اسهم في صنعها المشروع نفسه.

يقول عالم الكيمياء المصري الراحل احمد زويل، الحاصل على جائزة نوبل، انه لولا عبدالناصر لما حصل على الجائزة، ويقصد انه من طبقة مسحوقة، وفرّت له الثورة فرصة التعليم المجاني لينطلق مع ابناء جيله. وهو ما يعترف به توفيق الحكيم في كتابه "عودة الوعي" الذي ضمنه نقدا للثورة، واعترافا بما انجزته في زمن قياسي!

هل حقا كان عبدالناصر غير مدرك للعبة التوازنات الدولية، ويفتقر الى المجسات الذاتية الضرورية ليتجنب، في الاقل، بعض ما حصل، كما يتهمه منتقدوه؟ لا يداخلنا الشك في ان الرجل كان مدركا لمخرجات الحرب العالمية الثانية، وتوازنات القوى الجديدة التي افرزتها، وانه بحكم ثقافته العسكرية، ربما يكون اكثر من غيره ادراكا لذلك، ولهذا سلك في سياسته، طريقا ثالثة ليجنب مشروعه الوقوع في فخ التجاذب الدولي واستحقاقاته القاسية، وقتذاك. وهو ما ادركه ايضا الزعيم الشيوعي اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو، عندما ايقن ان واقع ما بعد تلك الحرب، تجاوز المتون العقائدية، وادخل العالم في لعبة استقطابات حادة لفرض الهيمنة والنفوذ، ستستدعي هامشا ثقيلا من العسف، ليس على الاعداء او الخصوم بل حتى على الاصدقاء و"الرفاق" ايضا. وبذلك تلاقى هذان الزعيمان مع زعيمين اخرين، يمثلان الاشتراكية الوسطية، ان جاز التعبير، وهما الرئيس الاندونيسي سوكارنو ورئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو. وقد انتج هذا التلاقي اول منظمة عالمية تدعو الى الحياد والابتعاد عن لعبة الاستقطاب التي قادت الى حروب مدمرة. ونقصد حركة عدم الانحياز، التي اسست في العام 1955، وكان هذا استشرافا مبكرا لما سيؤول اليه حال العالم، يحسب لهؤلاء الزعماء التقدميين.

لقد ركز خصوم عبدالناصر على ما وصفوها بالاخطاء الكارثية، مثل تأميم قناة السويس، والعدوان الذي حصل بسبب ذلك. وخلاصة انتقادهم هي ان القناة ستسلم لمصر في العام 1969 فلماذا الاستعجال واستجلاب الكارثة؟! وينسى هؤلاء الذين يمنحون العدوانيين غطاء اخلاقيا لا يستحقونه، ان هذا الكلام يجب ان يوجه لقادة العدوان، الذين يعرفون ان القناة مصرية وستعود لأهلها بعد سنين قليلة، او يفترض ذلك، فلماذا الحرب بدلا من مفاوضات سلمية لتسوية الامر؟ لاشك ان العدوان كان مبيتا، وان التأميم كان ذريعة بائسة، وهو ما تكشّف للجميع لاحقا.

حقبة عبدالناصر يصعب اختزالها بواقعة او موقف معين، لان سنينها الثمانية عشر، كانت مكتظة بالاحداث، مثل اجراءاته الاقتصادية الاشتراكية، ومواقفه من قضايا كبرى في حياة بعض الدول العربية، كدعمه لثورة 14 تموز/يوليو في العراق ومن ثم اختلافه مع الزعيم عبدالكريم قاسم، وثورة سبتمبر العام 1962 في اليمن وتدخله لانقاذ الجمهورية الوليدة من السقوط الحتمي، ودعمه لثورة الجزائر، وغيرها من المواقف التي لا يمكن لمصر الا ان تقفها، بحكم كونها البلد الاكبر والمتقدم ثقافيا ومؤسساتيا على اغلب الدول العربية. فهل نتجاوز كل هذه المواقف وغيرها، ونختزلها بمقولة الدكتاتورية التي يسعى الاعلام المعولم الى اختزاله بها، متجاهلين مشروعه التنويري الذي نقل مصر الى مرحلة جديدة، وضع فيها الشعب امام نفسه، ليقرر مستقبله بعد ان كان مغيّب الارادة وغالبيته بين مقصيّين وفقراء؟

شعوبنا اليوم صارت تتلفت كثيرا الى الماضي القريب، بعد ان استشرى التدليس السياسي ومصادرة السيادة باسم الديمقراطية وحقوق الانسان. ونرى ان الوقت بات مناسبا، لإقامة ندوات ثقافية على مستوى عال، لإعادة قراءة تلك المرحلة بموضوعية وانصاف رموزها، في مصر والعراق وبقية الدول العربية.. قراءة بعيدة عن اسقاطات المرحلة الحالية، لانها مشبعة بالطروحات الانفعالية التي لم تفض الى شيء حقيقي، يشبه شعاراتها!