أصبحت الحاجة ماسة إلى الترويح عن النفس أكثر من أيّ وقت مضى، في ظل الضغوطات المهنية المتزايدة والدراسية أيضا وكثرة مسببات التوتر العصبي، حيث انتشرت الأنماط العمرانية الشديدة الضيق، وما تعرفه تجمعاتنا السكنية من حركة كافية لإحداث كم هائل من التلوث والضجيج والفوضى. وهي عوامل قمينة بجعل الكبير والصغير تواقا إلى الهروب إلى فضاءات وأجواء يبثها تبرمه ويستمد منها حيويته وإقباله على الحياة من جديد، وقد عالج ضعف عزيمته وهوان قواه. فكيف نحيى العطلة؟ وما هي القيمة المضافة لها على المستوى النفسي والاجتماعي؟

العطلة ضرورة مهنية وحاجة نفسية

يقول المثل الروماني: «عطلة جميلة نصف عمل جيد»، فمع التوسع العمراني، وخصوصا في المدن الكبيرة، وانعكاس ذلك على ظروف العمل التي يرتفع نتيجتها منسوب الضغط النفسي لما تتطلبه من العناء الكبير في التنقل بين مقر العمل والسكنى التي لم تعد توفر ذلك السكن النفسي والبدني، في ظل إقامات ذات ملكية مشتركة، التي تنتفي معها تلبية الرغبة في الاستقلالية، ويفرض عليه ضبط تحركاته في شقة قد تحرمه من الشعور بالأمن على خصوصياته وعرى حميميته. ومهنة خلت من أسباب المتعة بالنسبة إلى الكثير، لأنهم لم يكن اختيارهم لها إلا للخصاصة وهروبا من جحيم البطالة التي تجعل المرء يشبث بأول فرصة عمل مهما كان نوعه، ضمانا ولو للحد الأدنى من العيش. فيريد من العطلة فرصة ومناسبة لتلبية حبه إلى الخلوة ولو إلى حين، واستراحة من رتابة مهنية وماكنتها التي تسحق كل من يدور في رحاها. إضافة إلى ما يقصف به الإعلام العقول والنفوس عند بداية كل عطلة، تشعل الرغبة وتحث على مغادرة البيوت والاستمتاع بضروب من الرحلات والأسفار وخصوصا لدى الصغار، الأكثر تفاعلا مع هذا النوع من الدعاية، حيث توافق هوى نفسيا واتباعا لموضة تكونت حديثا وأصبحت محطة مناقشة بين الأقران وداخل فصول الدراسة عقب كل عطلة، ومباهاة بين الجيران وعموم المعارف، زادت من حدته ووقعه منصات التواصل الاجتماعي. لكن هذا لا يلغي أهميتها التي تفطن لها الأوائل مع الإمام الشافعي القائل:

سافر ففي الأسفار خمس فوائد تفرج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد

والأواخر حيث نبه مارك توين إلى أن «السفر يقتل الانحياز والتعصب الأعمى وضيق الأفق. ولهذه الاعتبارات فإن الكثيرين ممن نعرفهم يحتاج إليه بشدة» لآثاره البدنية والنفسية الإيجابية، ولتحسن مردودية المستفيد منه مهنيا، فقد أثبت دراسة في علم النفس أن تركيز الأفراد وأداءهم يتحسن إذا قاموا بمشاهدة منظر طبيعي لمدة أربعين دقيقة فقط، فكيف هو الحال إذا تعلق الامر بمناظر ولساعات؟ إنه يسهم بقدر كبير في إعادة التوازن بين حاجات الإنسان المادية والروحية، وما يضيفه من معارف وخبرات تنمي المواهب، وتزيد من القدرة على الإبداع والابتكار.

العطلة فرصة لتجديد الأواصر العائلية أم تعميق لاختلالاتها

نظرا للإكراهات المادية والغلاء الفاحش الذي يعرفه السوق السياحي، بالإضافة إلى الموروث الثقافي والحضاري الحريص على إدامة حبل التواصل ممدودا بين ذوي الرحم وتشعباته أصلا وفرعا، فلكل هذا وذاك يضطر الكثير إلى قضاء العطلة لدى ذويه إشباعا لعاطفة القرابة والانتماء. لكن هذا الزعم وإن كان يصح من بعض وجوهه، فإن الواقع يكشف هوان حجيته وضعف مصداقيته، حين نلقي السمع إلى ما يبوح به الناس من شكوى وتبرم، سواء في الأماكن العامة أو على متن القطارات... في غياب دراسات سوسيولوجية تسعف في إماطة اللثام عن الإيجابي والسلبي لمثل هذه اللقاءات ومردوديتها الاجتماعية. لكن المؤكد منه هو أن الذات راضية على حسن صنيعها إنكارا لها ومضحية بالغالي والنفيس في سبيل إسعاد وخدمة الآخر، هذا الأخير الذي يقابل هذا الجميل بالجحود وأشنع الأفعال والأقوال في نكران تام لهذا المعروف. وهكذا، تتحول الخطابات المعلنة والمفعمة بالروحانية والطهرانية والساعية إلى تحقيق المراد الإلهي في الاجتماع البشري ومع ذوي القربى بشكل خاص؛ لكن المبطن ينكشف بمجرد عدم تحقيق المراد وما نضمره من إقدامنا على زيارة الأهل لحاجة في نفسنا، وحين نفشل في قضائها، نعلنها جهارا «الأقارب عقارب». فننزل بخطابنا اتجاه آخر من عليائه الأخلاقي إلى دركات التنابز والقطيعة، فكانت العطلة كشافا لعيوب وعامل توتر وقلق، مناقضة تماما للغاية التي شرعت من أجلها. فتتراكم العداوات وتزهر في قلوب الأبناء أشواكا ونباتات برية يصعب على أي مجرفة اقتلاعها إلا في مناسبات محدودة ولفترة وجيزة.

وتجنبا لكل هذا وغيره، توصلت المجتمعات الحديثة إلى إبداع أشكال ترويحية، أكثر جذبا للصغار، ومريحة للكبار. رحلات منظمة يتحمل مسؤولية تأطيرها وتنشيطها الدولة أو المجتمع المدني.

تثمين الدور التربوي العائلي وتبخيسه

تُجمع العديد من الدراسات النفسية والاجتماعية على أن الانحرافات الأخلاقية لدى الناشئة هي نتيجة للتفكك الأسري والعائلي، باعتبار العائلة مهد تكوين الوعي الاجتماعي، فيها تتشكل العلاقات وتستمر أو تنفرط حباتها، سواء تعلق بالجوار او المصاهرة أو... هي مدرسة عملية وذات تأثير فعال في اكتساب القواعد الاجتماعية التي تسمح للفرد بالانخراط في المجتمع ويلقى القبول والرضا بين أعضائه، بأساليب غير مصرح بها لكن متوافق عليها لا تسمح بالخروج عنها، وفي وضعيات يومية أو موسمية تتميز بثراء قيمي ضمني لا غنى للطفل واليافع عن استيعابه لتنساب الحياة أمامه رقراقة دون اصطدامات مجتمعية؛ فدور الجد(ة) والعم (ة) والخال (ة) لا يقل عن الأسرة والمدرسة في مصاحبة الطفل تربويا، وملء فراغ وجداني لا يسع غيرهم، ويتعاظم هذا الدور حين يغيب الآباء أو ينشغلون. فلا غنى عنهم في تثبيت الهوية والذود عنها، وممارسة نوع من الرقابة الناصحة والمسددة لسلوك الأبناء. هذه المهمة النبيلة للعائلة غابت لما سادت الأنانية وحب تملك الآخر وتسخيره، وغدت اجتماعاتها معرضا للتباهي ومنصة لازدراء الغير وتبخيس منجزاته والتقليل من شأنه إمعانا في إعلاء الذات ودونية الآخر ومجالا لتبادل العتاب واللوم، عوض تبادل الخبرات والتعاون على تربية الأبناء وتثمين مجهود بعضنا البعض، مع النقد الذي لا يخلو من إظهار الحب الواجب نحوه، مع استغلال هذا التجمع لعرض التاريخ العائلي بإيجابياته وسلبياته وإتاحة الفرصة للأبناء بإبداء تساؤلاتهم ورأيهم تلبية لفضول معرفي وخصاص عاطفي، في حميمية مفعمة بالمشاعر الخلاقة الكفيلة بالحفاظ على استمرارية تعارف النسل وتعاونه.

إن وضعا كهذا خليق بأن يُخرج أطفالنا من جو الفوضى، وأن تبقى العائلة أفقا لتبادل الرمزي أساسا، وعرضية المادي وليس العكس.

 

عبد الرؤوف الزكري