هل الطائفية مُنتج محلي أم ثمة فعل خارجي حاضر فيها، لاسيّما ما يشهده العالم العربي من صراعات ؟ وإذا كان العامل الداخلي قويّاً في الأزمة الطائفية الراهنة موضوعياً وذاتياً، فإن العامل الخارجي مؤثر، خصوصاً على صعيد التداخل الإقليمي والدولي.

ويبدو أن هناك خلطاً أو التباساً أحياناً بين الطائفة والطائفية، في حين أن هناك فروقاً شاسعة بينهما، فقد يولد المرء ودون اختيار منه في طائفة معينة ومن دين معين وحتى من قومية وسلالة ومنطقة معيّنة، لكنه لا يصبح طائفياً إلاّ إذا تحزّب لطائفة وتعصّب لإثبات تفوقها وتطرّف لتأكيد أفضلياتها وتسيّدها.

وحين تصدّعت تجارب الدولة العربية المعاصرة وانتكست الحداثة الجنينية في بعضها وتعطلت خطط الإصلاح والتنمية بسبب شحّ الحرّيات من جهة والتهديدات الخارجية من جهة أخرى، خصوصاً بعد قيام «إسرائيل»، صعد الاحتقان الطائفي إلى الصدارة، ولاسيّما بنكوص المواطنة الحاضنة للتنوّع.

وكانت القوى الخارجية قد لعبت على هذا الوتر الحساس، وقد بلور المؤرخ برنارد لويس،الذي توفي قبل أشهر قليلة، فكرة تقسيم الوطن العربي إلى 41 كياناً، وذهب هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق ومستشار الأمن القومي للقول منذ العام 1975: «علينا أن نقيم وراء كل بئر نفط دويلة»، لأنه يرى في التقسيم والتفتيت خدمة للمشروع الصهيوني الذي سيجعل «إسرائيل» الدولة الأقوى بين دول تمثل «أقلّيات» في الشرق الأوسط، لكي تكون أكثر تقدماً علمياً وتكنولوجياً في محيطها.

وكشف إيغال آلون منذ العام 1982 عن الأهداف الاستعمارية الاستيطانية للعدوان «الإسرائيلي» بعد 5 يونيو/ حزيران العام 1967 الهادفة إلى تقسيم العالم العربي والتوسع على حسابه، حين قال (واجبنا استيطان «إسرائيل» الكبرى). وأضاف: إن من يشكّ في هذا يضع علامة استفهام حول «العقيدة الصهيونية»، وقد بلور المحافظون الجدد في الولايات المتحدة لاحقاً هذه الآراء باستراتيجيتهم إزاء الشرق الأوسط، وعلى أساسها نفّذوا عملية غزو أفغانستان العام 2001 واحتلال العراق 2003، حيث دمّروا الدولة العراقية وفتحوا الباب على مصراعيه لاندلاع الصراع الطائفي وانفلات العنف واستشراء الإرهاب الذي لم يتوقّف عند حدود العراق.

وهكذا امتدّ الصراع إلى سوريا واليمن واستمرّ وجوده في لبنان، بل تعدّى ذلك إلى بعض دول الخليج ودول الإقليم مثل إيران وتركيا والباكستان وأفغانستان، ووصلت شذرات منه إلى دول أخرى بما فيها المغرب العربي، الأمر الذي أصبح تهديداً واضحاً وخطيراً للأمن العربي ولاستقرار مجمل دول الإقليم.

وتعتبر الطائفية اليوم أكثر الأوراق المؤثرة في النزاعات القائمة وفي عدم الاستقرار الذي تشهده المنطقة، حيث يتم تغذيتها إقليمياً ودولياً، ناهيك عن ارتباط بعض أطرافها بأهداف ومصالح خارجية بما يساهم في إدامة الصراع وتعتيقه حتى أصبح كل ما له علاقة بالتاريخ البعيد سبباً في تأجيجه، وكأنه راهن.

ومن مظاهر هذا الصراع استنزاف طاقات البلدان العربية على حساب الصراع العربي - «الإسرائيلي» من جهة، وعلى حساب قضايا التنمية والإصلاح والديمقراطية والعدالة والمساواة من جهة أخرى، حيث لعب دوره في تمزيق الوحدة الوطنية وفي زرع عدم الثقة بين الفرقاء وبث روح الكراهية والعداء، ناهيك عن إضعاف روح المواطنة، حين يتقدّم الانتماء المذهبي والطائفي والهوّيات الفرعية على الانتماء للوطن وعلى الهوّيات العامة الجامعة.

ومن مظاهره الأخرى ظهور تنظيم «داعش» في أواخر العام 2013، في كل من العراق وسوريا حيث استطاع بسرعة خاطفة وبوقت قياسي فرض نفوذه العسكري والسياسي والميداني على مناطق واسعة تجاوزت على ثلث أراضي كل من العراق وسوريا، ولاسيّما باحتلال الموصل «العراقية» والرقة «السورية» التي جعلها عاصمة له.

وشكّل مثل هذا الحدث نقطة تحوّل مهمة في مجرى الصراع السياسي القائم على أساس المصالح والنفوذ، الأمر الذي طرح تساؤلاً كبيراً حول حقيقة هذا التنظيم ووجوده وصناعته ودعمه، وهو ما صدر في تقرير مكثّف عن «مركز دراسات الشرق الأوسط - الأردن» في العام 2017، كما وردت إشارات إليه في كتاب الدكتور فواز جرجس «داعش إلى أين؟: جهاديو ما بعد القاعدة؟» الصادر عن «مركز دراسات الوحدة العربية»، العام 2016.

واليوم بعد هزيمة داعش عسكرياً في العراق وسوريا، فهل سيتم تحويل هذا النصر إلى نصر سياسي، باستعادة الوحدة الوطنية وإعادة تأسيس الشرعية على أسس جديدة، قوامها تحريم الطائفية واعتماد المساواة والشراكة والمشاركة أساساً في تحقيق المواطنة المتكافئة وإطلاق دائرة الحرّيات وتوسيعها واحترام خيارات الناس وحقوقها في إطار عقد اجتماعي دستوري سياسي جديد يؤكد احترام الخصوصيات والهوّيات الفرعية، ويعمل على تعزيز التنوّع وحمايته؟

 

عبد الحسين شعبان