بانتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب واجهت أمريكا، والعالم معها، ظاهرة لا سابق لها في تاريخها، فقد حفت سيرة هذا الرئيس بفضائح من كل شكل.
بدأ الأمر بشجرة عائلته، مع قيام ألمانيا، البلد الأصلي الذي جاء منه جده لأمريكا، بتقييم حياة الجد وأعماله واعتبارها لا تليق فمنع عنه استعادة الجنسية، ثم باستخدام أبيه إرثه في تأسيس ثروة طائلة لم تخل بدورها من اشكاليات مالية قانونية مع الحكومة، وصولا إلى ترامب الرئيس الحالي الذي تراكبت لديه صفات التباسات «البزنس» و«الترفيه» مع أجندة سياسية عنصرية داخليا وخارجيا، وهي سمات جعلته، على ما يظهر، لا يحفل بالفضائح الجنسية وبانتهاكات قانونية كبيرة، في تمويل حملته الانتخابية، وفي احتمال التواطؤ مع روسيا، في سبيل إسقاط خصمه المرشحة هيلاري كلينتون، والوصول إلى سدة الرئاسة.
وإذا كانت أجندة ترامب التي وعد ناخبيه الأمريكيين تفسر اشتباكه الكبير مع أجزاء كبرى من العالم، بدءا من جيرانه في المكسيك وكندا، ومع العالم الإسلامي عبر منع مئات الملايين منهم من السفر لبلاده، ومع الصين عبر الاجراءات الاقتصادية، ومع إيران التي رفض الاتفاق النووي معها، فإن باقي سلسلة العقوبات والإجراءات، كما فعل بتسليمه سوريا لروسيا في لقائه الأخير مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هلسنكي، وخوضه معارك مع أوروبا، وشنه حربا اقتصادية مع تركيا، حليفته الكبيرة في حلف الأطلسي، يصعب تبريرها مع شعاره الشهير «لنعد أمريكا عظيمة مجددا»، أو مع عناوين الحفاظ على مصالح بلاده السياسية والاقتصادية، ولا يمكن تفسير هذا الإضعاف لأوروبا وتركيا، والاستخذاء السياسي الكبير أمام بوتين من دون ربطه بالمعركة القضائية الجارية ضده على خلفية التدخل الروسي لصالحه في انتخابات الرئاسة، بل إن بعض المحللين والصحافيين وبعض رجال الاستخبارات يعتبرون أن لدى الكرملين ما يدين ترامب أكثر من قصة التدخل الشهيرة.
غير أن كل هذه التفاصيل المذهلة في حكاية ترامب لا يمكن أن تجعلنا نغفل عن كونه تعبيرا عن تغيرات هائلة في أمريكا والساحة السياسية العالمية، فرغم الاتهامات التي تطال حتى قدراته الذهنية والعقلية، فإن ترامب هو خلاصة التاريخ الأمريكي نفسه، الذي تعرض فيها العنصريون والانفصاليون (الذين يعتبرون أجداد اتجاه ترامب السياسي) لهزيمة خلال الحرب الأهلية (1861 ـ 1865)، ويعتبر انتصاره، ضمن قضايا أخرى كثيرة، انتصارا للاتجاهات السياسية اليمينية وللمسيحية الصهيونية، وهي اتجاهات تجد نفسها معارضة لليبرالية الأوروبية، وأقرب لأنماط الاستبداد الشرقي، وهو ما يفسر هذا الغرام ضمن هذه الاتجاهات الأوروبية النازية والعنصرية ببوتين وبشار الأسد وإسرائيل، باعتبارهم رموزا ضد «الإرهاب» الإسلامي، الذي هو أحد مواضيع الكراهية الكبرى في أدبيات ذلك الاتجاه.
إضعاف أوروبا الليبرالية، ودعم أوروبا العنصرية، هو بهذا المعنى، استكمال لمحاولة اتجاه ترامب إضعاف الديمقراطية الأمريكية نفسها، ونزوع هائل نحو أوروبا هتلر وموسوليني، وفي ظل التقييدات التي تقيمها المؤسسات القضائية والإعلامية والنيابية والتنفيذية لسيادة الاتجاه العنصري الفاقع، تتركز الصورة على زعماء مثل بوتين، الذي يشابه ترامب في تواطؤاته السياسية ـ المالية ويسانده في اضعاف أوروبا الديمقراطية والليبرالية.
ترامب، باختصار، زعيم انتخب ديمقراطيا، وطموحه أن يكون دكتاتورا، ولكن أمريكا ليست روسيا.