ورد في الجزء المخصص للحديث عن الانتقال الديمقراطي من مذكرات عبد الرحمان اليوسفي "أحاديث في ما جرى" أن السبب الذي كان ولازال يشكل عائقا أمام تحقق حلم تطبيق الانتقال الديمقراطي على أرض الواقع ما أسماه "القوة الثالثة".

فرغم عدم تسمية الأشياء بمسمياتها والاقتصار على العموميات، إلا أن ما يمكن استنتاجه أن "القوة الثالثة" سلطة تتوفر على كل ما يجعلها قادرة على قلب الموازين وتحريك كل شيء من أجل ألا يتحرك أي شيء أو العكس؛ وذلك حسب ما يتوافق ومصالحها.

وما يقرب المعنى أكثر هو ما تمت الإشارة إليه في المذكرات بخصوص ما يتعلق بتاريخ وأسباب نشأة تلك "القوة" وأهدافها؛ وهي عناصر تعتبر أساسية في معرفة كنه الأشياء بشكل واضح.

تاريخ نشأة هذه القوة توافق مع بداية المفاوضات التي جرت بين الحكومة الفرنسية وبين الوطنيين المغاربة حول استقلال المغرب وعودة محمد الخامس من المنفى، بضغط من المقاومة وجيش التحرير.

فقد اتفق أن الحكومة الفرنسية كانت قد اشترطت لإجراء هذه المفاوضات أن تكون على رأس حكومة التفاوض شخصية مستقلة، أي من غير الوطنيين ممن ينتمون إلى الحركة الوطنية وجيش التحرير.

ولأسباب مختلفة تمت الموافقة على شخص اسمه "امبارك البكاي". ومن المعلوم أن اختيار هذه "الشخصية " جاء بناء على الشرط الأول، كما جاء بناء على عناية من الحكومة الفرنسية، القصد منها تحقيق أهداف معينة عبر سهولة الانقياد إليها وعدم مقاومة شروطها الرامية إلى منح استقلال صوري فقط، لكي تحافظ على تأخير جلاء قواتها وعلى بقائها المعنوي غير المرئي بالمغرب، والحفاظ على مصالحها ومصالح معمريها وكذا معاونيها من المغاربة، وكذلك ضرب المعسكر الوطني الذي تشكل منذ الثلاثينيات...

ولم يمر إلا وقت قصير من منح الاستقلال "الصوري" للمغرب حتى برزت إلى السطح خلافات عديدة، إما بين الوطنيين بعضهم البعض وإما بينهم وبين القصر، مسهمة بذلك في استبعاد الوطنيين من المسؤولية، وتركيز السلطة في يد واحدة بعدما استفحلت كثرة الانشقاقات التي أدت ما مرة إلى إسقاط الحكومة؛ لتتعزز فرضية إمكانية الاستغناء عن الحكومة بإعلان حالة الاستثناء التي كانت فرصة مناسبة لكي يظهر في الساحة أشخاص آخرون لم يكن لهم وجود أثناء المقاومة والدفاع من أجل الاستقلال، احتلوا أماكن مهمة في الدولة؛ وهؤلاء هم القوة الثالثة.

وفي وقت كانت حركات المد والجزر بين الوطنيين والقصر حول النزاع على السلطة متفاوتة وغير مضبوطة، كانت القوة الثالثة تعمل بجد على ترسيخ جذورها أكثر في جميع الأماكن الحساسة للدولة، مستغلة بذلك الفراغ الذي تركه عدم انضباط حركتي المد والجزر تلك.

وإذا ما كان الأمر على هذا النحو، وبهذا المعنى، فإن ما تمتلكه هذه القوة من سلطة كفيل بفعل أي شي، إلى حد التحكم في المصائر والقرارات.

وللتدليل على ما تمتلكه من قوة وتحد، فقد اتفق أن الحسن الثاني أرسل موفدا إلى المهدي بن بركة، ليبلغه بإمكانية عودته من المنفى الاختياري، كما أبلغه أيضا بطلب "حل المعادلة الرياضية". رحب المهدي بن بركة بالعرض، كما أبدى حماسة للمشاركة في الحكومة، بعد أن ينتهي من أشغال التحضير لمؤتمر القارات الثلاث.. وبعدما علم الملك بتفاصيل الجواب، حدث أن تمت مفاتحته في الموضوع نفسه، ليقول قولته المعروفة: "لقد فات الأوان". ومباشرة بعد ذلك أعلن خبر اختفاء المهدي بن بركة.

كما هو معلوم فالمعادلة الرياضية تتوفر على أعداد معلومة وأخرى مجهولة، تماما كما هو الأمر في معادلة الحكم في المغرب..أشخاص في العلن وآخرون في الخفاء، تظهر أفعالهم وهم لا يظهرون.

ولعل هذا ليس حكرا على المغرب وحده، بل إن وجود هذه القوة وما تمتلكه من وسائل خطيرة يتحدد بوجود بيئة يسود فيها التخلف والفساد؛ فهي تستعمل ما تتوفر عليه من وسائل في التفوق في الحاجة السائدة والمطلوبة؛ فإن كان الزمن زمن تجارة أبانت عن قدرتها في تدبير وسائل التجارة وفي سهولة جلب الأموال، وإن كان الزمن زمن قوة وحرب أظهرت نياشينها التي أدركتها استبسالا في معارك الوغى، وإن كان الزمن زمن مرض وأوبئة ادّعت الكرامات والقدرة على العلاج..كل هذا من أجل التقرب أكثر فأكثر إلى مراكز القرار، بعدما اقتنع بقدراتهم الخارقة إزاء ما يشكل عنده حاجة ملحة وضرورية.

فعلى سبيل المثال لا الحصر ظهر أواخر القرن التاسع عشر في روسيا القيصرية، التي كانت حينها تئن تحت وطأة الفقر والاستبداد المقرونين بالفساد، رجل يدعى غريغوري راسبوتين، مدّعيا القداسة وامتلاك "الكرامات"- كما يقال عندنا- في علاج المرضى.

ذاع صيت راسبوتين في كل مكان، وما إن وصل خبره وخبر كراماته إلى أسماع الملكة المكلومة بسبب مرض ابنها الأمير حتى أمرت بإحضاره إلى القصر.

ولأسباب معينة -ذكرت بعد مرور وقت طويل على هذه الحادثة وبالضبط بعد تطور الطب- استطاع صاحب الكرامات أن يحدّ من مرض "جريان دم" الأمير، فاستقرت حالته وتحسنت، ولم يعد يشعر بالألم كما كان من قبل.

كان لهذا وقع كبير على مسار حياة الرجل صاحب المعجزات، فمنذ تلك اللحظة أصبح كلامه يقام له وزنا داخل القصر، وما فتئ على ذلك الحال حتى أمسى الآمر الناهي في القصر، وصاحب القرارات المصيرية للبلاد التي كانت تزيد من وطأة التخلف والفساد..وأمام الحنق الذي بات يكنه له الشعب، واستشعاره بخطر يهدده، لم يتوان في بث ذلك لأسياده، مخبرا ومحذرا إياهم مما سوف تؤول إليه الأمور، إذا ما تم اغتياله، فآنئذ سوف لن يستمر ملكهم طويلا.

وما جعل قصة هذا الرجل ذي الكرامات تبقى قائمة في عقول الناس، خاصة في البلد الذي جرت فيه أحداثه، هو حصول ما سبق وأخبرهم به.

الشعب الذي اغتال راسبوتين، صاحب الكرامات، ثار بعد سنتين من ذلك على القياصرة، وتركوا وراءهم قصورهم خاوية على عروشها. لكن راسبوتين ظل كذلك عبرة مرسومة في ذاكرة روسيا، استفادت منهما لتتطهر من رجس التخلف وتصبح من أقوى البلدان في العالم.

إن صنع وتوهم كثرة الجبهات والأعداء غالبا ما يؤدي إلى تشتيت الجهود وإهدار الطاقة، وبالنتيجة مراوحة المكان..وهذا ليس حصرا على مجال معين، بل هي قاعدة تسري على جميع مناحي الحياة.

 

عبد الغاني بوز