الحلقة الثانية

توطئة:

"هذا من التقاليد".. ما إن تسمع هذه العبارة من أحدهم، حتى تتملَّكُك سلطةُ القديم والأصيل، وتنصرف مصدقا ومستسلما، والحال أن الكثير من التقاليد، وفي جميع الأقطار، مُجرد صناعات حديثة تخدم أغراض الأنظمة والأفراد.

أدعوك الى رحلة ممتعة، تنطلق من المرتفعات الاسكتلندية لتصل إلى بلاط التاج البريطاني، مرورا بالحِقبة الرومانسية بـ"ويلز". ثم أشبع شوقك للتَّعرف على تقاليد صُنعت بالهند الفيكتورية والمستعمرات الإفريقية.

كل هذا مع كتاب :اختراع التقاليد : THE INVENTION OF TRADITION للكاتبين الأمريكيين: TERENCE RENGER و ERIK HOBSBAWM

قُبلةُ الموت.. هي هدية الإنجليز للمراسيم الملكية العُظمى. لماذا؟:

"الهدف الحقيقي للحكومة هو إسعاد الشعب" هذا ما انتهى إليه "الكتاب الأسود" الذي صدر سنة 1820.

لقد اعتبر المواكب، والمهرجانات، واحتفالات التتويج، والأكاليل، والمفاتيح، والعصي الذهبية، والصولجانات البيضاء، وألبسة الفراء، والملابس الفضفاضة، والشعَر المستعار.. كلها أمورا غير ذات قيمة.

وشيئا فشيئا، على مدى القرن التاسع عشر، أصبحت المهرجانات الملكية موضع استِهجان؛ بدل ما كانت تتمتع به من سُمُوٍّ، باعتبارها رمزا للهيبة والعظمة.

لعلك، بعد هذا تتساءل: ولكن لا نرى، اليوم، هذه التقاليد والطقوس إلا أكثر رسوخا وشعبية.

هذا صحيح؛ اليوم، عدا طقوس البابوية بالفاتيكان، لا يوجد رئيس دولة يتمتع بما تتمتع به الملكة إليزابيث الثانية من أبهة.

ويفسر يان جيلمور ذلك قائلا إن "المجتمعات الحديثة ما زالت في حاجة إلى الأساطير والطقوس؛ وهو ما يتحقق في شخص الملك وعائلته".

في تغطية هذه المهرجانات يقع المعلقون والكتاب في أوهام كبيرة، فيتصورون أنها هكذا كانت تتم دائما عبر ألف سنة؛ ويتوقفون عند الانضباط الصارم لما جرت به التقاليد.

وهذا خطأ. نعم بعضُها قديم، لكن ليس إلى هذا الحد المتوهم.

لنبحث جميعا في هذه الطقوس، محاولين استكشاف معناها الحقيقي. إنها بمثابة اللوحات الفنية، التي لا يوجد معناها في بنيتها وتكوينها الداخلي فقط؛ بل حتى خارجها:

* إن كان نصُّ التتويج لا يتغير لفظا، فإن معناه يتغير لأنه يُفهم ضمن سياق اجتماعي جديد.

* في فترات السكون والدَّعة ترمز طقوس الملكية إلى ثبات الوضع؛ وفي الفترات العصيبة، فترات الصراعات والانقسامات، ترمز إلى ثبات التواصل والشعور بالارتياح.

* وتشتغل الطقوس مُؤكدة العظمة القومية ومُمجدة الماضي.

*طقوس الجنائز الملكية مناسبة شُكر، واحتفاء بما قدمه الراحل لشعبه. ويُنظر الى طقوس الجنازة كقداس للأمة.

ومن ناحية التحقيب يميز الدارسون لتطور هذه الطقوس بين أربع فترات:

الأولى: من عشرينيات القرن التاسع عشر وما قبلها الى السبعينيات منه، تعتبر طقوسا ضعيفة في مجتمع بدائي متخلف.

الثانية: بدأت سنة 1877 بتتويج الملكة فيكتوريا إمبراطورة على الهند. إنها فترة استحداث الكثير من التقاليد.

الثالثة: من 1918 إلى تتويج الملكة إليزابيث سنة 1953. هنا ترسخت التقاليد وانفرد بها الإنجليز فخورين؛ لأن أغلب الملكيات الأوروبية سقطت.

الرابعة: ستستمر مع الملكة إليزابيث؛ لكن في الوقت نفسه مع انحسار بريطانيا العظمى، وظهور التلفزيون، وما نعيشه اليوم من ثورة رقمية. كل هذا فتح طقوس الملكية لعامة الشعب.

وكأن التاج البريطاني لم يعد فوق رأس الملكة فقط، بل فوق رؤوس كل البريطانيين؛ ومن هنا تواصل حبهم لمظاهر العظمة في الاحتفالات الملكية.

من أجانب مستعمِرين الى دخلاء حاكمين:

"إن حقوقكم وكرامتكم وشرفكم وكذلك سيطرتكم على أراضيكم ستكون محل احترام"، هكذا خاطبت الملكة فيكتوريا أمراء الهند وسائر شعبها، في خطاب تتويجها امبراطورة على الهند بتاريخ 8 نوفمبر 1858.

لكن هل يمكن الانتصار في حرب التقاليد بين نظامين موغلين في العراقة؟ لقد اقتنع التاج البريطاني، منذ البداية، بأن تبعية الهند للنظام الإقطاعي، الذي كان سائدا في بريطانيا وأوروبا؛ لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال الاعتراف بالطبقة الارستقراطية المحلية.

لقد أصبح واضحا، في ستينيات القرن الثامن عشر، أن "السلطة بمجرد تحققها يجب أن يكون لها ماض آمن وصالح للاستعمال".

ها أنت ترى كيف اصبح مجال اختراع التقاليد مفتوحا على مصراعيه في الهند.

هكذا وفي اللقاءات الأولى للورد كانينج، أول ممثل للملكة بالهند، خلال زياراته عبر أقاليم الهند، وزع العطايا والألقاب على أولئك الذين خضعوا للاستعمار منذ البداية وناصروه. تريدون ألقابا ها هي ذي: راجا، نُواب، راي صاحِب، راي باهادور.. وكلها بملابس ورموز خاصة.

هند أخرى يشكلها الاختراع بأزياء جديدة. تضاف إلى هذا، طبعا، الإعفاءات الضريبية، وتمليكهم الأراضي .

كانت لمجالس "الدوربار" العتيقة طقوسٌ خاصة يتم فيها تقديم الهدايا للحاكم الهندي: ذهب، أقمشة، خيول، وفيلة.. لقد توهم الإنجليز، في البداية، أن قيمتها تجارية، في حين تكمن قيمتها، بالنسبة للهنود، في اعتبارها طقسا التحاميا.

في جولات الحكام الإنجليز، وحضورهم "الدوربارات" لم يكن لهم أن يرفضوا هدايا الأمراء والحكام، ولا أن يقبلوها، فهي رشوة في نظرهم.

يوجد دائم تقليد يُخترع: تَدويرُ الهدايا؛ بمعنى تسلُّمها من هذا وإهداؤُها لآخر؛ أو بيعُها في مزادات وشراء هدايا أخرى بثمنها.

لقد استحدث البريطانيون في الهند الكثير من التقاليد، وكيفوا أخرى لتصبح مقبولة لديهم؛ لكنهم أصروا على التمسك بأحذيتهم في أرجلهم، وهم يزورون الأماكن، حتى المزارات المقدسة والمعابد.

لكل شيء رمزيته؛ فكيف لا يرمز الحذاء الإنجليزي إلى السيطرة والتطويع؟

الترويض على الخنوع في إفريقيا:

بعد رياضته المسائية اليومية، يترك الحاكم الإنجليزي قبعته معلقة في شجرة، في أي مكان من الغابة؛ وأي إفريقي يمر بالمكان يصبح ملزما بإعادتها الى المنزل.

خلافا لما جرى في الهند، كان الاِشكال المطروح بالنسبة للبيض الأوروبيين، بعد أن نبتت مستعمراتُهم في القارة السوداء- بدءا من القرن التاسع عشر- هو كيف يجعلون الأفارقة، المتخلفين، الخاضعين للملوك البدائيين، يقتنعون بتفوقهم وسيادتهم.

الأمر هنا ثقافي، ومن هنا الرصيد "السِّحري" الذي يمثله اختراعُ التقاليد.

أن ينسى الحاكم قبعته، فهذا وارد، لكن أن يُصِر على ترسيخ سلوك استعبادي، فهذا مَكرٌ ثقافي.

بالنسبة للبريطانيين، وهم أهل تقاليد، تضمن مخططهم احترام التقاليد القائمة، ودعمها باختراع تقاليد تصلح للأفارقة فقط: في مجال التعليم، الإدارة، الفلاحة، الصناعة وغيرها.

تصور: مجرد اللون الأبيض يجعلك أرستقراطيا بين السود. هذا ما فرح به العمال الأوروبيون الوافدون على المناجم الإفريقية.

تكريسا لهذه السيادة، تلاعبوا حتى بالقوانين النقابية الأوروبية، ليُحصنوا نفوسهم من الاختلاط بالعمال السود.

على المستوى الروحي العقدي، انتشرت شبكة من الإرساليات المسيحية، عرفت كيف تتواصل مع الأفارقة، وتبتكر لهم مسيحيتَهم لتلتهم معتقداتهم، حيثما وُجدوا بسلاسة كبيرة؛ لكنها تبقى دائما يدا حديدية في قفاز حريري.

وقد شاع في جوهانسبورغ تقليدٌ مُختَرع للتشجيع على المسيحية: ليس للأسود المسيحي ما يلتزم به؛ لكن حينما يسير بجانبه البيضُ الأوروبيون عليه التنحي جانبا.

في توجيه لمديري تعليم إنجليز، سيشتغلون، يَرِد: "يجب ألا يغيب عن بالكم أن هؤلاء الأطفال سوف يكونون رعايا أعظم إمبراطورية تحت الشمس؛ عليكم تعليمهم الوطنية، وحضهم على الإيمان بالرسالة المُقدسة لدولتهم وجنسهم".

وخِدمةً لهدف بناء مجتمع هرمي متين، يسود فيه البيض وينفذ فيه السود الأوامر، لكن في جو من الاقتناع والفخر اعتُمِدت منهجيتان:

أولا: قبول فكرة تدريب الأفارقة وإشراكهم في الحكم.

ثانيا: ترسيخ ثنائيات، مستوردة من أوروبا: رئيس، مرؤوس، ضابط، جندي؛ وفي الأرياف شاعت ثنائية: سيد، خدم.

 

رمضان مصباح الإدريسي