لم يكن موسم اصيلة للسنة 2018 الذي حمل الرقم 40 غير دليل جديد على ان انّه لا يزال في عز شبابه. لا يزال موسم اصيلة شابا على الرغم من بلوغه الأربعين. يعود ذلك الى انّه قادر على التجدد والابتكار مع المحافظة على طابع خاص ذي ابعاد جمالية مرتبطة بالفن والموسيقى والرسم ونشر قيم اصيلة مرتبطة بكلّ ما هو حضاري في هذا العالم.

استطاع الموسم هذه السنة المحافظة على مستواه من جهة واستعادة تلك الايّام التي كان فيها، تعبيرا عن الاستثناء المغربي في منطقة تفتقر الى رجال مثل الملك محمد السادس من جهة أخرى. رجال يمتلكون القدرة على اتباع سياسات واقعية وخلاقة في الوقت ذاته. رجال يعملون من اجل المواطن المغربي ورفاهه ومن اجل خلق افاق جديدة له وللمنطقة المحيطة بالمغرب والتي تشكل امتدادا طبيعيا له. هذه المنطقة هي افريقيا التي حقق المغرب اختراقات كبيرة فيها على صعد عدّة في السنوات القليلة الماضية.

من بين ابرز ما تميّزت به الاختراقات المغربية المنفعة المتبادلة مع الدول الافريقية واللعب على ورقة التنمية بعيدا عن ايّ نوع من الانتهازية. لذلك نجح المغرب في افريقيا من منطلق التعاون الذي يصبّ في خدمة الشعوب الافريقية واستغلال ثروات القارة السمراء على نحو إيجابي، خصوصا في مجال الخدمات الصحيّة والزراعة فضلا عن نشر ثقافة تتصدّى فعلا للإرهاب والتطرف في كلّ المجالات. يشمل ذلك تكوين رجال دين مسلمين يشرحون للمواطن ما هو الإسلام الحقيقي وان الإسلام دين تسامح واعتدال ووسطية. دين بعيد كلّ البعد عن التطرّف والارهاب.

كان افتتاح موسم اصيلة لهذه السنة بندوة تحت عنوان "الاندماج الافريقي: اين العطب؟". شارك في افتتاح الندوة الرئيس السنغالي ماكي صال الذي لم يتردد في قول ما يجب ان يقوله رجل منصف عن دور المغرب البناء على الصعيد الافريقي. هذا الدور الذي رسمه محمد السادس الذي حول المملكة الى جسر أوروبي الى افريقيا. لم يبخل الرئيس السنغالي في مديح موسم اصيلة الذي ارتبط ارتباطا وثيقا برجل الثقافة ليوبولد سنغور، اول رئيس للسنغال المستقلّ.

أعطت زيارة الرئيس السنغالي لاصيلة إشارة الانطلاق لموسم ناجح اثبت من خلاله محمد بن عيسى الأمين العام لمنتدى اصيلة، وهو وزير سابق للخارجية في المملكة المغربية، انّه لا يزال في ذروة عطائه.

كانت افريقيا حاضرة كعادتها في موسم اصيلة. لكنّ العالم العربي كان حاضرا. خصصت ندوة لـ"مأزق الوضع العربي الراهن: الممكنات والآفاق". تميزت الندوة، كما العادة في اصيلة، بكلام صريح عن "انهيار مساعي التوحيد وبعثرة جهود التنسيق ولم الشمل العربي حول اهداف واقعية تحقق الامال والطموحات الوطنية والقومية". لم تأتِ الندوة، استنادا الى عدد من المشاركين فيه بجديد، لكنها سمحت بتشريح للوضع العربي. كان من اهمّ ما فيها تفادي الغرق في المزايدات المرتبطة بالقضية الفلسطينية. صارت القضية تمتلك متخصصين في المتاجرة بها لا مكان لهم في اصيلة. هناك فلسطينيون وغير فلسطينيين يتقنون هذه المهنة. في اصيلة كان هناك كلام واضح عن التحديات الحقيقية التي تواجه ما بقي من العالم العربي في هذه المرحلة في ظلّ المشروع التوسّعي الايراني. في اصيلة، كان هناك كلام مباشر عن ضرورة قيام دولة مدنية والخروج من لعبة دور الدين في رسم معالم الدولة وطبيعتها، وهي لعبة لا افق لها. على العكس من ذلك، تؤدي هذه اللعبة الى السقوط في بحر الشعارات التي يريد الاخوان المسلمون لكلّ مجتمع عربي الغرق فيها.

كان مفيدا ان لا يغرق موسم اصيلة كلّيا في السواد والتشاؤم. لذلك كانت ندوة "المواطنة في الميثاق الوطني البحريني" التي شارك فيها عدد من المطلعين بشكل عميق على تجربة مملكة البحرين. من بين هؤلاء السيدة سميرة إبراهيم بن رجب، وزيرة الاعلام سابقا التي تشغل حاليا موقع المبعوث الخاص للديوان الملكي. مرّة أخرى أظهرت مملكة البحرين، على رغم صغرها، انّها قادرة على ان تقدّم فكرة عن إصلاحات عميقة وجدية على الصعيد الداخلي في منطقة تعمل فيها ايران كلّ ما تستطيع من اجل اثارة الغرائز المذهبية داخل المجتمعات العربية. اعطى المشاركون، في الندوة المخصصة للبحرين، فكرة عن كيفية مواجهة دولة صغيرة مسالمة محدودة الموارد تمتلك مجتمعا حيّا لتحديات كبيرة تستهدف ضرب النسيج الاجتماعي فيها من منطلق مذهبي ليس الّا.

بدأ الموسم بافريقيا وانتهى بموضوع شائك هو "الفكر الديني الحاضن للارهاب: المرجعية وسبل مواجهته". كان لا بد من إيضاح ان الجرأة في التعاطي مع موضوع شائك من هذا النوع تستهدف حماية الإسلام الحقيقي من الذين يرتكبون الجرائم باسمه. وهذا ما فعله محمد بن عيسى الذي حرص على تأكيد انه "اذا كان الإرهاب يرتبط في أيامنا بالإسلام الذي تنتسب اليه زورا الجماعات التكفيرية المتشددة، الّا ان كلّ الديانات كانت في سياقات ومراحل معيّنة عرضة لهذا التحريف والاستغلال. فالتاريخ يعلمنا ان افظع الجرائم التي تعرّضت لها الانسانية تمت باسم القيم والمعتقدات العليا. والدراسات الاجتماعية تبيّن لنا انّ المقدّس بمقدار ما يحمي الكرامة الانسانية ويصونها، يكون ذريعة ومبرّرا لأعتى التجاوزات والانتهاكات التي يتعرّض لها البشر. فباسم الدين شنت حروب دموية مدمّرة وابيدت أمم وشعوب كاملة وكممت افواه مخالفة. ليس الخلل في الدين ذاته بل في أنماط تأويله وفهمه التي تتلبّس عادة اوضاعا ظرفية ليس العامل الديني ذاته حاسما فيها وان احتلّ واجهة الحدث واستأثر باساس الاهتمام".

بكلمات قليلة، اختزل محمد بن عيسى ندوة كاملة تستهدف "المساهمة في اجلاء الحقائق المطموسة وتفكيك الاطروحات الرائجة وتقديم الإجابات الصحيحة في ما يخصّ الاشكالات المطروحة". بكلمات قليلة ايضا اختصر أيضا سؤالا وجهته اليه عن سرّ اصيلة وكيف استمرت أربعين عاما ولا يزال موسمها شابا. كان جوابه بكلّ بساطة: "هذا هو السؤال الذي ليس لدي جواب عنه".

بعد أربعين عاما، لا يزال لاصيلة سرها. لين هذا السرّ. هل هو في جمال المدينة التي تتطور باستمرار وتلتصق اكثر فاكثر بالقيم الحضارية المتعارف عليها في عالمنا الحديث ولكن من دون التخلي عن اصالتها وتاريخها؟

عوامل كثيرة تميّز موسم اصيلة. يبقى العامل الاهمّ الفضاء المغربي الذي يسمح لمدينة صغيرة، كانت في الماضي ميناء للصيادين، بان تتطور بشكل طبيعي وتزداد جمالا وتألقا سنة بعد اخرى. قد تكون كلمة السرّ التي لم يفصح عنها محمد بن عيسى واحدة. انّها كلمة الانفتاح. انّه انفتاح في بلد الانفتاح الذي اسمه المغرب. هذا الانفتاح هو، قبل ايّ شيء آخر، اقبال على ثقافة الحياة بكل ما تعنيه من تجاوز للعقد بكلّ انواعها.