ليس الأمل نقيض اليأس، ربما هو الإيمان

الناجم عن لا مبالاة آلهةٍ بنا... تركتنا

نعتمد على مواهبنا الخاصة في تفسير

الضباب وقال: ليس الأمل مادَّةً ولا

فكرة. إنه موهبة.

تناول قرصاً مضاداً

لارتفاع ضغط الدم. ونسي سؤال الأمل...

وأَحسَّ بفرج ما... غامض المصدر!

محمود درويش.

يذهب بعض المهتمين بتجربة الإنصاف والمصالحة في بلدنا، من السياسيين والحقوقيين، من المغاربة وغيرهم، إلى أن التجربة فشلت.

وبكثير من اليقين، وفي قفز متعمد على أحداث أعطبت المسلسل، وكادت أن تنهيه في المهد، ولا سيما أحداث "الربيع العربي" سيئ الذكر، وفي إهانة قل نظيرها لذكاء كافة من أبدعوا التجربة، يدعي هؤلاء أن سبب فشل التجربة راجع إلى أن الداعيين إليها والقائمين عليها، والفاعليين الأساسيين فيها، كانوا خداما من دون حسن نية، وأن غرضهم الأساس كان تلميع صورة "العهد الجديد" خدمة له، ولأغراضهم الشخصية.

وفي سباق محموم نحو تأكيد صحة كلامهم، ولو تعسفا على التاريخ، يورد هؤلاء أحداث الريف كعنوان بارز لفشل التجربة، معتبرين أن "التعامل الأمني"، واتهام فصيل من "الدولة العميقة" للحراكيين الريفيين بالانفصال، والأحكام التي صدرت في حق شباب الحراك، هي أحكام انتقامية من منطقة كانت عسيرة الانخراط في مسلسل الإنصاف والمصالحة على الطريقة المغربية، وقاطعت جلسات الاستماع العمومي التي حسب قولهم كانت تراهن عليها الدولة إعلاميا لتلميع التجربة وتسويقها.

والحال أن الانخراط في المسلسل المغربي للإنصاف والمصالحة، كما هو الشأن في كل التجارب عالميا، تطلب من الداعيين إليه، "ضحايا" كانوا أو "جلادين"، إيمانا عميقا بالتجربة ومستقبل البلد، وتهييئا نفسيا وثقافيا، وسياسيا، وحقوقيا يقدر في ميزان السياسة بالذهب والماس، ويوزن في الممارسة السياسية ببيض النمل. لأن التجربة بالنسبة للمنخرطين فيها كانت تمرينا فرديا وجماعيا قاسيا جدا في علاقتهم بمن يعتقدون أنهم السبب في "جهنمهم" التي عاشوها. كما أن أحداث الريف هي عنوان أزمة المسلسل وليس عنوان فشله.

وإذا كانت حجتهم فيها كثير من السطحية، والتسرع في إصدار الأحكام، وكثير من الخلط بين الذاتي والموضوعي، فإن الاستدلال بأحداث الريف كعنوان لفشل التجربة فيه كثير من البهتان والكذب على التاريخ، لأن الداعين إلى مقاطعة جلسات الاستماع العمومي آنذاك احتجوا لأسباب تنظيمية، ولم يعبروا في أي لحظة عن اصطفافهم ضد التجربة. ومن الأمانة التاريخية القول إن مطالبهم كانت مشروعة، وإن الوسطاء – أي بين الضحايا والدولة آنذاك-أفشلوا علاقة الطرفين بتسرعهم وبقلة ذكائهم، ولم يمنحوا لهما فرصة تعميق النقاش بينهما، وهو نقاش كان سيكون في صالح التجربة، وكان سيغنينا عن الأزمة التي يعيشها المسلسل اليوم.

وأما القول بأن الأحكام الصادرة في حق شباب "الحراك" أحكام انتقامية ففيه كذلك كثير من السياسوية والجهل بطبيعة المؤسسات والقائمين عليها، لأن القضاء، في العالم بأسره، مؤسسة محافظة لا تريد أن تفهم شيئا، لا في السياقات، ولا في السياسة، وفي لا في التراكمات الحقوقية والمدنية، هدفها تنفيذ القانون بالحرف في أحايين كثيرة، وباستحضار ظروف التخفيف غير السياسية في أحايين قليلة، ورمي الكرة إلى المؤسسات السياسية. وهم لا يريدون، هنا وفي أية بقعة مهما ادعت انتماءها إلى الديمقراطية، أن يعرفوا شيئا مما يهمنا نحن الحقوقيين والمدنيين، ومعنا بعض السياسيين التقدميين، لأن ما صدر عنهم – في نظرهم-لا يحتكم إلا إلى القانون. وهم في ذلك مستعدون لإقناع العالم بسلامة قراراتهم وأحكامهم.

وبالرغم من كل شيء، وبالرغم من الضربات المباشرة وغير المباشرة، من ضربات "الأعداء" أو "الإخوة الأعداء"، من الضروري الإقرار اليوم بأن تجربة الانصاف والمصالحة ببلادنا لم تفشل إلى حد الآن، بل إنها تعيش أزمة حادة، وهي أزمة يمكن أن تؤدي بها-في أية لحظة-إلى موت محقق، وهو ما سيفتح – لا قدر الله-باب مستقبل المغرب على مجهول مماثل لما دخلته كثير من بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط.

ولرفع اللبس، وقصد المساهمة في إنقاذ المسلسل، من الواجب إفهام الناس أن المصالحة هي قبل كل شيء درس تربوي في السياسية وممارستها، وفي التواضع في علاقتنا وتعاملنا مع جميع الفرقاء، مهما كانت الاختلافات التي تبدو لنا بيننا وبينهم، وهي بالتالي صيرورة تتطلب وقتا طويلا من العمل والتفاعل الصادق، وأن نتائج مثل هذه التجارب لا يؤتي أكلها إلا بعد زمن معين، قد يطول أو يقصر حسب مستوي الوعي به من قبل الفاعليين وصدقية ممارساتهم، وذكاء القائمين على تنفيذ توصياتها–إن انتهت إلى ذلك-من قبل المؤسسات المسؤولة عن ذلك، والمؤسسات الحقوقية الوسيطة.

ما العمل إذن لإنقاذ التجربة من الموت؟

قبل التفكير في العمل الضروري لإنقاذ مسلسل الإنصاف والمصالحة المغربي، وجب الاقرار بأن ما نعيشه اليوم من حراك اجتماعي في جزء كبير من بقاع المغرب، ما هو إلا جزء من تمظهرات الأزمة التي تعقب عادة تجارب المصالحة غير مكتملة النجاح. وهي حركات "جماهيرية" تذكيها جروح ذاكرتها الجماعية، ويراد لها أن تجنح نحو التطرف من خلال الاستحضار القوي للتعبيرات الرمزية المرتبطة بذاكرتها في ما قد يبدو وكأنه نوع من الانفصام عن قيم المواطنة التي توحد كافة المواطنين، وما يزيدها قتامة وسوريالية هو عزفها مرة أخرى على وتر الدين، وتوظيفه في الصراع من خلال التركيز على محطات مشرقة في تاريخ الدين، دون التأكد من حقيقة إشراقتها وفي عزل تام عن سياقها التاريخي. والحال أنها في العمق حركات لا تطالب إلا بالمزيد من الأوكسجين لتتنفس التجربة أكثر، وبمزيد من الجرأة والذكاء لتستمر في طريقها نحو بر أمان الدولة التي تحقق لهؤلاء "الحراكيين" الحد الأدنى من العيش بكرامة. وإذا لم ننتبه إليهم كما يجب–وكما علمتنا التجارب المماثلة-فإنهم سينفجرون بشكل من الأشكال.

فإذا ما أخذنا "حراك" الريف كنموذج للازمة التي يعيشها مسلسل المصالحة في بلادنا، فمن الضروري الإقرار بأن هيئة الإنصاف والمصالحة تعاملت مع ملف الريف باستعلاء وبكثير من السطحية والسرعة بالرغم من التفاعل الايجابي–كما قلت سالفا-لجميع الفاعلين السياسيين والحقوقيين والمدنيين آنذاك، من أقصى اليسار إلى بعض "اليمين"، لذا فأي خطوة نحو انقاذ هذا المسلسل اليوم يجب أن تبدأ من نقد ونقض تعامل هيئة الانصاف والمصالحة مع ملف الريف، وقراءة أسباب هذا التعامل. ومبتدأ ذلك استثمار وقراءة متمعنة لجلسات الاستماع العمومي، وما واكب التحضير لها، ومن الجذب بين مناصري انعقادها ومناهضيهم، خاصة وأن المناهضة كانت في الشكل ولم تكن في الجوهر. وخير ذلك، إبداع شكل آخر من البوح الجماعي.

إلا أن الرجوع إلى الملف اليوم لن يتم إلا عبر مراجعة التعامل مع ملف ما يعرف بحراك الريف، ذلك أن الملف يجب أن يعالج سياسيا، بعد استنفاد القضاء أو قبل استنفاد القضاء لمهمته، لأنه بالرغم من إيماننا الشديد بأن القضاء مؤسسة أساسية للبناء الديمقراطي تستوجب التقدير والاحترام الضروري، فإن الأحكام التي أصدرها غير متماشية مع روح الانصاف والمصالحة وما راكمه المغرب في المجال الحقوقي، ولم تراع طبيعة التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والديمغرافية التي يعرفها المجتمع المغربي، ولا المغرب – كدولة – تعيش أزمة في مسلسلها نحو الانصاف والمصالحة الذي تطلب طاقة كبيرة جدا، وأن الأحكام–بغض النظر عن مدى عدالتها-لا يمكن أن تساهم في خلق الإطار المساعد على تحقيق عدالة اجتماعية ومجالية، بقدر ما تخلق الأحقاد والتشكيك في الإرادات، خاصة إرادة الاستمرار في مسلسل الانصاف والمصالحة، الذي سيؤدي بالمغرب حتما إلى أن يكون دولة ديمقراطية رائدة.

إلا أن هذا سيظل ناقصا ما لم يتم الانتباه إلى أن أزمة مسلسل الانصاف والمصالحة تعكس كذلك أزمة عميقة تعيشها المؤسسات الحزبية والنقابية والمدنية، كما هي إعلان كذلك عن اختناق المؤسسات الحقوقية التي عليها لعب دور الوساطة بين الدولة والمجتمع، ولا سيما المجلس الوطني لحقوق الإنسان، كما أنها تسائل، مجددا، جدوى ووجود وزارة الدولة المكلفة بحقوق الإنسان التي لم تقم طيلة الأزمة، وحتى بعد صدور الأحكام، إلا بما يمكن أن تقوم به جمعية حقوقية محلية.

وقبل اقتراح ما يمكن من إنقاذ مسلسلنا من الموت، من الضروري دعوة الأحزاب السياسية إلى تأهيل خطابها السياسي، والابتعاد عن الشعبوية القاتلة، والعودة إلى الركوب على الأحداث، كما فعل حزب الاستقلال مؤخرا، مما سيمكنها من لعب الأدوار المنوطة بها دستوريا حتى تتمكن من استرجاع ثقة شبابنا، ودعوة النقابات الوطنية إلى تجديد ممارساتها النقابية بما يلائم طبيعة مهامها ووجودها، حتى تتمكن بدورها من القيام بالأدوار المنوطة بها دستوريا، ودعوة المؤسسات الحقوقية الوسيطة إلى تغيير صيغ تفاعلها مع الأحداث الحقوقية التي تعرفها البلاد، وإبداع صيغ استباقية لمعالجة القضايا التي تدخل في مجال اختصاصها، واعادة النظر في تركيبة ومهام لجنها الجهوية.

إن الأمر يتطلب أكثر من أي وقت مضى عقد ندوة وطنية يدعو إليها المجلس الوطني لحقوق الإنسان بشراكة مع المؤسسات الحقوقية الوطنية، ويشارك فيها من يقترحه الطرفان من مختلف المتدخلين في موضوع مسلسل الإنصاف والمصالحة، لتقييم المسلسل، وتقديم تصورات لمعالجة أسباب الحراكات التي يعرفها المغرب لتلبية مطالبها ولتجنب انحرافات ممكنة نحو ما لا يخدم الديمقراطية في البلد. كل هذا من أجل تجاوز حالة الاحتقان الراهن، وبهدف توفير شروط التفكير، وإبداع صياغة مشروع تنموي جديد يستمد مضامينه من توصيات هيئة الانصاف والمصالحة، ومن توجيهات جلالة الملك ويستجيب لآمال وطموحات المغاربة.

إن هذه الندوة التي ندعو إليها هي شكل من أشكال استخدام الذكاء الجماعي الذي لن نمل من ترديد الدعوة إليه، وشكل من تغليب صوت حكماء الوطن، وتعميم القيم الإنسانية الداعية إلى الرحمة والصفح والعفو والتأسيس للمستقبل.

من هنا وحتى يؤتي مسلسل الانصاف والمصالحة أكله، من الضروري دعوة الحكومة المغربية إلى التفاعل الإيجابي السريع مع نبض الشارع المغربي، وتحمل مسؤوليتها كاملة في تحقيق العيش الكريم لجميع المغاربة؛ ذلك أن عدم الاستجابة لمطالب الشعب في حدودها الدنيا اليوم، سيعتبر عرقلة لمسلسل الإنصاف والمصالحة تستوجب منا الدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها خدمة لمسلسل المصالحة، وتفعيلا لمبدأ الإنصاف، وتحصينا لمستقبل البلاد والعباد.

 

عبدالسلام بوطيب


 

* فاعل سياسي وحقوقي