كانت العقائد القومية تخلف بين اللبنانيين حول الكيان اللبناني من دون أن تنسف أسس الدولة اللبنانية. لا بل، في عز الصراع على قومية لبنان، ازدهرت الدولة سياسيا واقتصاديا وماليا وتربويا وحتى أمنيا، ووضعت التشريعات والقوانين الحديثة وأنشئت الإدارات العصرية. مع انحسار صراع القوميات، قدرنا أن الخطر على الكيان تراجع هو أيضا. وإذ نفاجأ بـ"الدولة الجديدة"، هي التي تشكل الخطر الآخر عليه. بمعنى أن الدواء الذي يجدر به أن يمتص التناقضات ويوالف بين المكونات الحضارية ويزيد منعة المجتمع هو الذي يقتل الوطن.

كان بعضنا لا يرى في الكيان اللبناني هويته، فصرنا جميعا لا نرى في الدولة الحالية هويتنا. لا قيمة تطبيقية للبنان ما لم يرفد بدولة محترمة ومجتمع محصن. من دونهما، لبنان حالة تاريخية أثرية، وشعور وجداني شعري. لم يعرف التاريخ القديم والحديث كيانا استمر خارج دولة، ولا دولة بقيت خارج نظام ودستور وشعب.

وقبل أن تكون الدولة إطارا دستوريا هي حالة مثالية لأنها مرجعية. وبالتالي، يفترض بمن يدخل حرمها أن يكون هو أيضا مثالا. لقد تطور مفهوم الدولة عبر العصور: الإغريق حددوا الدولة بالمؤسسة التي "تعلم الفضيلة" وحظروا على الأغنياء دخولها طوال مائتي سنة. في القرون الوسطى اعتبروا الدولة المؤسسة التي تؤمن "الخير العام" فقرب الملوك المثقفين إليهم. وفي "عصر الأنوار" صارت الدولة المؤسسة التي تضمن الحريات والممتلكات فنشأت الدول الحامية والمحاربة.

في أي دولة يعيش اللبنانيون؟ شعور المواطنين اللبنانيين بالغربة عن دولتهم زاد بعد الانتخابات النيابية التي يفترض أن تعزز القربى بالدولة طالما حملت إلى المجلس النيابي الأشخاص الذين انتخبوهم. التفسير السياسي هو وجود انفصام بين السلطة والدولة، فنزوات أهل السلطة مختلفة عن دستور الدولة. والتفسير النفساني هو وجود انفصام بين شخصية المواطن وشخصية الناخب، فطموح المواطن مختلف عن حاجة الناخب. الأول يحاسب والثاني محسوب.

ربما هي المرة الأولى يكون فيها "اتفاق الطائف" بريئا من الأزمة الحكومية، بل من أزمة الحكم. فكل ما يجري اليوم يجافي الدستور والصلاحيات والميثاق والأعراف والتقاليد. التصرفات والتصاريح والمواقف والمطالب اعتباطية، مزاجية، متعجرفة، عنجهية، وإلغائية. قلما شاهدنا مثيلا لها منذ التسعينات. وربما هي المرة الأولى أيضا تكون الطائفية فيها - رغم استفحالها - بريئة نسبيا من الخلافات المستعرة حول الحكومة. فالصراع تفلت من حقوق الطوائف والمذاهب، واتخذ بعدا سلطويا جامحا من دون أي برنامج حكم. وهذه المرة، يتحمل أطراف مسيحيون أيضا مسؤولية تذمر الناس من الدولة.

يصعب على المواطن أن يحب دولة لا تلتزم القيم والأخلاق والشفافية والرقي. يصعب على المواطن أن يحب دولة لا تضمن بقاءه في وطنه وقريته وبيئته وجوار مرقد أبائه وأجداده. يصعب على المواطن أن يحب دولة لا يفتخر بها ولا يقدمها نموذجا للآخرين. يصعب على المواطن أن يحب دولة لا تؤمن له العمل والطبابة والكهرباء والمياه والنظافة والمواصلات والاتصالات.

في زمن الحرب والمقاومة والتحرير، تقبل الشعب اللبناني التضحية من أجل بلاده، وكانت التضحيات أحلى من عسل. تحمل فقدان جميع هذه المستلزمات الحياتية، فصمد وقاوم وتعذب واستشهد وانتصر. أما اليوم، فلماذا تعيش الدولة اللبنانية هذا الشعب حياة الحرب في زمن السلم؟ ولماذا تعيشه مجتمع الجهالة في زمن المعرفة؟

حين نرى كيف تدار مؤسسات الدولة وقضايا الناس، نصاب بدوران وغثيان: نسب، حصص، أحجام وأوزان؛ فيما لو جمعناها كلها لا تساوي وزن ريشة في ميزان التاريخ. من أنتم لكي تقتسمونا وعلى ثيابنا تقترعون؟! ومن أنتم لكي تقرروا مصيرنا؟

فقدت الدولة اللبنانية استثنائيتها الجغرافية والتاريخية والرسولية. تسطحت، انحطت وتخلفت. انتقلت من دولة نافعة إلى دولة نفعية. سيطرت عليها طبقة سياسية من مخلفات الاحتلال ومن فتات الأحزاب والعائلات. فلا هذه الأحزاب أحزابا، ولا هذه العائلات عائلات، ولا هؤلاء الزعماء زعماء، ولا هذه الوجوه الجديدة نخبا. دور السياسيين أن يأتوا بالناس إلى كنف الدولة والوطن، فإذ بهم في لبنان يكرهونهم الدولة ويهجرونهم من الوطن.

لكثرة ما صور المؤرخون والمفكرون لبنان عظيما وخالدا وفريدا ومثاليا، صدم اللبنانيون بسياسة خالية من هذه الصفات والقيم، وبسياسيين ولدوا من رحم الصدفة ومن تكرير الاحتلال ومن شهوة التناسل. قليلون ناضلوا ليصلوا.

الوطن اللبناني تحديدا هو كيان نخبوي، ولا يحكم دولته من لا يحمل "دفتر سوق" نخبويا. وأصلا، لم تتراجع الدولة إلا حين صادرها المتخلفون والمتمولون و"أمراء" الحرب. حتى أواسط الثمانينات كانت النخب لا تزال في الدولة وأمراء الحرب كانوا بعد في الشارع. ولما المقاومة اللبنانية دخلت للمرة الأولى إلى حكومة في آخر عهد الرئيس النخبوي الياس سركيس، اختارت مقاوما نخبويا هو الدكتور سليم الجاهل القاضي النزيه وأستاذ القانون في جامعتي اليسوعية والسوربون (قارن تحزن، وتذكر تنتحب).

لبنان مفعم بالشخصيات النخبوية الوطنية القادرة على إدارة الشأن العام بحكمة ونزاهة ومسؤولية وإعادة البلاد إلى الخط المستقيم. لكن هذه الطاقات السياسية "الاحتياطية" غير قادرة على ولوج المسؤوليات السياسية من خلال آليات النظام واستحقاقاته لأنها تحترم نفسها وترفض أن تكون من حاشية الزعماء. ألم تكشف الانتخابات الأخيرة أن المال والولاء كانا معياري الدخول إلى معظم اللوائح القوية؟

في لبنان، لدينا جميع مرتكزات الدولة المادية والمعنوية. لدينا الأرض والشعب والنظام. لدينا مقومات الوجود الكياني وطاقات الاكتفاء الحياتي. لدينا البحر والساحل والجبل والسهل. لدينا القوانين والمؤسسات والإدارات.

من هذه الناحية، غالبية مشاكل الدولة اليومية قابلة الحل بمنأى عن الخلاف الوطني شرط أن تطعم الطبقة السياسية بشخصيات واعدة وتعطى صلاحيات استثنائية لإجراء الإصلاح السياسي والإداري. ولكن، حتى هذا الطموح المتواضع صعب المنال في غياب هذه الإرادة عند أولياء الأمر.

ينقصنا رجل إذا لفظ اسمه قامت الدولة. أنبحث عنه في الأضرحة أم في الأحشاء، في القصور أم في الثكنات، في الجامعات أم في الشوارع؟