راكم المغرب رصيدا محترما على مستوى السياسة الجهوية ، إلا أنه لم يتمكن من معالجة الاختلالات البنيوية الاجتماعية والمجالية المتجلية في تدني نسب النمو والناتج الداخلي الخام، ومستوى التنمية البشرية، وضعف الحكامة، وغياب العدالة في توزيع الثروة والاستثمارات والمنشآت الاقتصادية، والخدمات الاجتماعية، والبنيات التحتية.. وما يؤكد ذلك البون الطبقي الشاسع بين أقلية تنعم بحياة الرفاه ، وبين أوسع الفئات الشعبية المحرومة من أبسط متطلبات الحياة الكريمة . بالإضافة إلى الهوة العميقة بين جهات تنعم بقدر مقبول من التنمية والتحديث، وجهات تكاد تنعدم في معظم مجالها الترابي شروط العيش الكريم.

وأمام ثقل وضغط التحديات، وأمام التزايد المتنامي باطراد لأعداد المحرومين من أبسط متطلبات الحياة، أصبحنا أكثر من أي وقت مضى نعاين ونعايش ظواهر سلبية وخطيرة تعمق الجراحات والمآسي، وتسبب في تصاعد موجة السخط ووثيرة الاحتجاج.

إن وضعية مقلقة من هذا القبيل باتت تحثم الدعوة وباستعجال إلى الانكباب الجماعي من أجل اتخاذ الإجراءات والتدابير التي من شأنها إخراج البلاد من النفق المسدود، والسير نحو معالجة كافة الاختلالات المعيقة للتنمية الشاملة والمندمجة. ولا نرى في تقديرنا مخرجا لذلك سوى بالتفعيل السليم للجهوية المتقدمة.

إن الحاجة إلى نموذج تنموي جديد في إطار الجهوية تحتاج إلى إرادة سياسية ، سيما أن المتتبعين والفاعلين الجهويين يقرون انطلاقا من ظاهر الأعمال والمسلكيات أن تطبيق الجهوية ما يزال يراوح مكانه لمحدودية مردوديته وفعاليته، وكذا لتقاعس الحكومة العاجزة عن التسريع بتنزيل ورش الجهوية ، والتعامل معه بمواقف مترددة وخجولة..

إن استشراف الآفاق المستقبلية بكامل الأمل ،يفرض انكبابا جماعيا لكل الفرقاء والفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين من أجل إنجاح ورش الجهوية باعتباره رافعة أساسية لتحقيق التنمية، وترسيخ الاختيار الديمقراطي.

وهذا لن يتأتى إلا بفرض توزيع عقلاني للسلطات والاختصاصات والموارد عبر تجسيد فعلي وكلي للامركزية بمدلولها السياسي، وللاتمركز بمدلوله الإداري ،؛ مع الحرص على جعل منطلقاتهما وغاياتهما إشراك الساكنة ، ووضعها في صلب المعادلة التنموية وفِي مركز صنع القرار، مع الحرص على العمل بواقعية سياسية وبشفافية والقرب من المواطن.

إن تحقيق التنمية بهكذا مواصفات رهين بتطبيق الجهوية كأولوية الأولويات، وجعلها قضية محورية لأنها الكفيلة بتقديم الأجوبة الممكنة عن انشغالات ومتطلبات المغاربة، والقادرة على تحقيق العدالة الاجتماعية الضامنة لديمومة الاستقرار والسلم الاجتماعيين..

إن التفعيل الرشيد لورش الجهوية سيثمر بدون شك نموذجا تنمويا جهويا يجعل من الجهة فضاء للتعبير والاقتراح والتمثيلية، ومجالا لوضع وتنفيذ سياسة تنموية مندمجة قوامها أنسنة الجهة، وبلورة حقوق الساكنة موازاة مع تكريس ثقافة المواطنة باعتبارها دعامة لا غنى عنها لتحقيق التنمية، وبكونها ركيزة قوية لبناء شروط المشاركة الواعية.

ونشدد في هذا الصدد على ثقافة الانتماء إلى الجهة شريطة أن تظل في ترابط مع ثقافة الانتماء إلى الوطن ، إذ لا ضرر من التنوع والتعدد في إطار وحدة الوطن..

وحتى لا يزيغ أي كان عن ذلك ، يلزم الأمر تسييد قيم العقل وثقافة الاتفتاح على التعدد باحترام تام لخصوصيات كل جهة ، مع تجاوز المركزية المغلقة ، وتقوية أواصر التماسك والتضامن بما يحقق الإنصاف..

وانطلاقا من إدراكنا لأهمية التفعيل المطلوب للجهوية ، نرى أن المرحلة تقتضي نفض الغبار عن اختلالات الديمقراطية المحلية كخطوة لبناء الصرح الجهوي المأمول ، مع استحضار الظرفية المعقدة بتحولاتها ومنعرجاتها وإخفاقاتها وتحدياتها الضاغطة، وكذا بما تفرزه من احتقان وغليان اجتماعي يجب الانتباه إليه بعمق قبل فوات الأوان.

وبعيدا عن هدر الزمن أو المراهنة على عامل الوقت .. ونحن أمام وضعية بالغة التعقيد ، ينبغي النأي عن اختزال الديمقراطية كآلية ضرورية لنجاح أية سياسة جهوية في شقها السياسي كالتعددية والحريات... أو في شقها الاقتصادي كالحرية الاقتصادية وحركية الاستثمار والسوق والتنافسية رغم علاتها.

إن الديمقراطية تظل مبتورة في مقاصدها إن لم تضع ضمن أولوياتها المسألة الاجتماعية، وعيا منا أن الديمقراطية تبنى بالفئات المتمتعة بحقوقها في السكن والتعليم والشغل والتغطية الصحية والحماية الاجتماعية.. وإن لم تكن الديمقراطية كذلك سنظل نهلل ونصدح بديمقراطية فاقدة لمضمونها الاجتماعي الإنساني التضامني..لتستمر المعاناة وخيبات الأمل...

إن بلادنا بحاجة اليوم إلى نموذج تنموي جهوي قادر على إبداع وابتكار مواقف وحلول، من خلال برامج قابلة للإنجاز ، ومستلهمة لمرتكزات نعرض بعضا منها:

1- تصحيح الاختلالات بإطلاق استراتيجيات ذات الصِّلة بالسياسات العمومية والقطاعية والتنموية . استراتيجيات طموحة وناجعة وهادفة إلى إيجاد الحلول الممكنة للانتظارات، انطلاقا من تحديد الأولويات من جهة ، وهيكلة الميزانية الجهوية حول البرامج والمشاريع والخدمات الملبية لحاجيات الساكنة بالحواضر كما بالأرياف من جهة ثانية .

2- وضع تصورات وبرامج التنمية محددة في الزمان والمكان، تراعي توزيع الاختصاصات والإمكانات والموارد بين المركز والجهة، وبين الجهة وكافة الجماعات الترابية المنتسبة إليها.

3- الانطلاق أثناء إعداد المخطط التنموي والتصميم الجهوي لإعداد التراب من إعمال الديمقراطية التشاركية تفعيلا لمنطوق الفصل 139 من دستور 2011 ، المتعلق بوضع آليات تشاركية للحوار والتشاور لتيسير مساهمة الساكنة والجمعيات في إعداد برامج التنمية وتتبعها.

4- توزيع الأنشطة والمشاريع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بعدالة ، مع توظيف وتسخير كل جهة لكل مؤهلاتها الطبيعية والبشرية والحضارية، واستفادتها من صندوق التأهيل الاجتماعي ، ومن صندوق التضامن للجهات، كما هو منصوص عليه في الفصل 142 من الدستور."

5- وضع العنصر البشري ضمن أولويات وأهداف السياسة الجهوية، مع الإدراك الواعي بأن النهوض بالجهة مرهون ، بتحسين أوضاع ساكنتها، وتجويد نمط عيشها، ومقرون كذلك بتعزيز مشاركة النساء والشباب والنخب وكل الكفاءات والطاقات المبدعة والمنتجة المشهود لها بالاستقامة والنزاهة والكفاءة في تدبير الشأن الجهوي. وهو ما من شأنه أن يدعم قيم الجماعة، ويبلور المضمون المأمول من المقاربة التشاركية.

6- النهوض بقطاعات التعليم والثقافة والبحث العلمي لدورها الريادي في إنتاج الكفاءات المراهن عليها للسمو بالفكر والإبداع والتحليل النقدي، وتحرير الذهنيات من كل الأنماط الثقافية ذات النزوعات الشعبوية والتضليلية، أو المتاجرة بالرأسمال الرمزي المشترك.

7- تفعيل النظام الرقابي لضمان حسن تدبير استثمار الموارد المالية والبشرية، وتوفير أجواء الشفافية ، وبناء منظومة جهوية للنزاهة، وكذا ربط التنمية بإقرار الحكامة التدبيرية للشأن الجهوي وفق ما نص عليه الفصل 146 من الدستور.

8- تقوية دور الإعلام الجهوي، والدفع به ليصبح أكثر تأثيرا وفاعلية وانفتاحا ، وأكثر انكبابا على تشخيص وتشريح وتحليل مختلف القضايا التي تهم الجهة بصورة موضوعية ،وبمهنية واحترافية عالية..

 

حرث لحسن