لقد أبان الأمير مولاي الحسن عن مخايل الرشد وعلامات الذكاء المبكر، كما أبان عن تفوق ذهني منقطع النظير وهو ما يزال في حداثة سنه، وعن استعداد وشجاعة وإقدام في كل المناسبات والامتحانات التي مر منها في مدرسة محمد الخامس الذي اعترف له بشهادة النجاح بامتياز، حيث كللت تلك التنشئة بإعلانه وليا للعهد، وقد اجتمعت فيه شروط الخلافة الراشدة.

لقد كان ذاكرة متقدة ذكاء خارقا "ذاكرة قوية" "وهيبة" منحته إياها "العناية الإلهية" وهي ذاكرة صافية المرآة لا يعكر صفاءها وانضباط أجهزتها كثرة ما عاناه من مشاكل الحكم وعرض عليه من قضايا وما سمعت أذناه من أقوال وما تبدلت أمامه من وجوه...

حتى صار الواحد منهم لا يستطيع أن يقول إلا الحق في حضرته، بداعي الصدق أولا وداعي الخوف من ذاكرته القوية...

وهذه الذاكرة القوية هي التي أهلته لاكتساب المعارف بكل سهولة وسلاسة؛ حيث يقول "أستاذه محمد الفاسي" بالمدرسة المولوية، سابقا، في حق تلميذه وملكه: "ومن هذه الصور التي تمر الآن في مخيلتي ما كنت ألاحظه عليه في القسم، حيث كان أحيانا يستمع إلى الدرس وكأنه لا يوليه كل الانتباه، وكأنه سابح في تفكير عميق لا يمت إلى الدرس بصلة، فأنبهه فيقول: "إنني أنصت إلى كل ما تقول فأطلب منه أن يعيد آخر ما ذكرت، وإذا به يعيده كما قلته، وعند ذلك تحققت من مواهبه التي لم تزد إلى تمكنا"، و"كان لا يكاد يقرأ كتابا أو يستوعب قاعدة أو يحفظ شعرا أو يحضر حادثة أو تعرض عليه قضية أو يزور مكانا حتى ينطبع ذلك في ذاكرته ويستعيده متى شاء ولو بعد مضي سنين طويلة بنعوته وأوصافه والظروف الزمانية والمكانية".

إلا أن أعظم المناسبات الرسمية التي بقيت راسخة في ذاكرة الأمير الحسن وبحظ وفير، وخلقت أثرا عميقا في نفسه وارتساما لا يمح من ذهنه، اجتماع والده بالرئيس الأمريكي "روزفلت" أثناء وجوده سنة 1943 بالدار البيضاء، إثر مؤتمر أنفا، حيث شاهد كيف تدار السياسة، وكيف يتكلم الساسة ليخططوا مصير العالم.

وهكذا يقول "الملك" إنه لم يدرك إلا فيما يعد كم كان إطلاق اسم "الحسن" عليه يحمله من أعباء ثقيلة لم يكن بطاقته النهوض بها لولا معونة أبيه له، ولولا تجاربه وخبراته وقوة روحه ومضاء عزيمته.

وبناء على ما أبان عليه "أمير الأطلس" من مواهب فطرية، وذكاء خارق، وما حصله من معارف وما عايشه من أحداث وطنية حاسمة ودولية، وما تقلده من مهام، فإن محمدا الخامس أناط به مقاليد "النيابة الملكية" فتوجه إليه قائلا: "يسعد جلالتنا أن تنيط بك مقاليد النيابة الملكية، كما طوقتك من قبل مهمة كبرى، ألا وهي رئاسة الأركان العامة للقوات المسلحة تنويها من جلالتنا لما بذلته من جهد".

وأمام نجاحات ولي العهد التي أثارت انتباه الوالد قبل غيره، أنابه عنه في الدورة الثانية والثلاثين لجامعة الدول العربية بالدار البيضاء، بتاريخ 1 شتنبر 1959، حيث ألقى خطاب الافتتاح، فأبهر الحاضرين من ملوك ورؤساء الدول، بفصاحته وخطابته وتميز شخصيته التي ستؤهله إلى رئاسة الحكومة الحاملة لاسمه:" حكومة الحسن الثاني" سنة 1960، حيث لما بلغ الصراع ذروته بين أحزاب الحركة الوطنية، على عهد محمد الخامس، وأصبحت البلاد على شفا حفرة من الاضطرابات تدخل محمد الخامس فحسم النقاش والصراع حول الحكومة معلنا تنصيب ولي عهده على رأسها معتبرا أن ذلك يعد ضمانة لسير "البلاد قدما في الطريق الذي يكفل لها الطمأنينة والازدهار (...) لأن (...) الظروف الاستثنائية التي يجتازها بلدنا حملنا على أن نأخذ الأمر بأيدينا مباشرة ونمارس شؤون الدولة بواسطة ولي عهدنا، رغبة في استقرار الحكم وجمع كلمة الأمة، وحفظ كيان الدولة واستمرارها (...) قررنا تعبئتك ووقع عليك اختيارنا (...) فلأننا خبرناك وبلوناك في مناسبات (...) ظهرت فيها مواهبك وكفايتك (...) والرسالة الجديدة تكليف مرهق (...) إننا مقبلون على عهد جديد من تاريخنا، مقدمون على تنفيذ برنامج واسع يتناول تنظيم الدولة على أسس جديدة، كما يستهدف تحقيق تقدم الأمة".

والحسن الثاني لم يكن إلا واحدا من الجيل الذي تربى في وسطه (جيل بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد وعلال الفاسي وعبد الرحمن اليوسفي، والفقيه البصري، وأحمد عصمان، وكذلك أوفقير والدليمي والمذبوح... وهو جيل المثقفين والمتطرفين والمغامرين)، لكن يأبى من حسن حظه إلا أن يتربى في مدرسة محمد الخامس ويعيش في كنفه، تربية أهلته ليصير وليا للعهد ويكون ملكا.

وفي هذا الباب يقول: "عندما انتهيت من دراستي الثانوية ووقفت على باب الاختيار قبل مزاولتي الدراسات العليا سألني والدي المنعم رحمه الله: "ماذا تريد أن تدرس؟" فأجبته التاريخ! فقال لي رحمه الله: "آمرك أن تدرس القانون، ذلك لأنك يمكنك أن تجد من يصلح لك البلاد من الناحية التقنية من طرق وصحة (...) ولكن ليس في الإمكان أن تجد غير نفسك للدفاع عن قانون بلادك وحقوق بلادك"، و"أيام دراستي تعلمت شيئا مهما هو الطاعة"، فأنا "مسؤول معنويا عن سياسة والدي، ومطلوب مني مواصلتها وتزكيتها، مثلما أنا مسؤول ماديا عن تنفيذ وصاياها، والمحافظة على عاداته وعوائده"، و"أنا فخور بانتمائي لمدرسة محمد الخامس".

إن هذا المسار من التربية التي تلقاها الحسن الثاني، بالإضافة إلى مواهبه الفطرية، دلل أمامه مصاعب ومخاطر ممارسة الحكم، وتحدي العقبات؛ حيث يقول: "ولئن كانت مهمتنا تبدو لنا يوم تربعنا على عرش أجدادنا محفوفة بالصعوبات، فإننا كنا مزودين لمجابهتها بانتمائنا إلى مدرسة محمد الخامس، مدرسة المبادئ والقيم التي تربي مريديها على تحمل التضحيات وتشحذ عزم من انتسب إليها وتأس بها على التحلي بالصبر والمصابرة على المكروه، واختط الصمود والمقاومة أسلوبا لمواجهة قاسي الأحداث".

ومن المهام التي كانت في انتظار ولي العهد وأخطرها، مهمة تولي عرش تمتد جذوره على مدى أربعة عشر قرنا، وصفته كذلك كأمير للمؤمنين منحدر من سلالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى كونه الملك السابع عشر في قائمة الملوك الذين تعاقبوا على حكم المملكة، وإنه لإرث عظيم، فهل كان الحسن الثاني في الموعد مع حدث التربع على العرش؟ وهل كان في مستوى تقلد الأمانة العظمى وممارسة مهنة الملكية؟

يرد الحسن الثاني عن هذه التساؤلات قائلا: "لقد كنت ملكا وأنا في عهد أبي وليا للعهد لا يخصني إلا التاج".

ويضيف: "إننا منذ أن طوق الله عنقنا بأمانة الملك واختارنا لقيادة هذه الأمة وضعنا نصب عينينا أن نخلق لها حاضرا عظيما يتلاءم مع ماضيها العظيم"، و"لقد كان الارتياح الذي قابل به شعبنا خلافتنا (...) أكبر مقو لنا على تقلد الأمانة العظمى، وتحمل الأعباء الثقيلة التي كانت ملقاة على كاهل والدنا (...) والواقع أنني لم أخترها بمعنى أنني عرفت أن أبي هو الذي أهلني لمهامها، وأن كل التكوين الذي لقنني إياه لم يكن يوجهني لغير ذلك، ومهمتي تحتم علي أن أقوم بواجبي دون انفعال، ذلك أنني إذا ما كنت في حالة انفعال فسيقع ما لا تحمد عقباه، ولذلك أعمل جاهدا على القيام بمهمتي دون انسياق مع العاطفة".

إن الملك، يوضح الحسن الثاني، "ليس نزوة ولا هواية، إنه في الواقع مهنة حقيقية"، مضيفا أن مهنة الملك ليست كما يظن البعض أصبحت بائدة فما "المهنة بغبية، وإنما الناس هم الأغبياء، فليست المهنة القبيحة ولكن الناس قبيحون، قيمة الحرفة في قيمة من يحترفها (...) فإذا كان الملك جيدا فالمهنة جيدة (...) وقد دل التاريخ على أنه إذا كان للعاهل شخصية ونفوذ فهو لا يحكم فقط ولكنه يشعر بوجوده على العرش".

وفي نظر الحسن الثاني، فإن مهنة الملكية لا يمكن لأي كان احترافها، إنها مهنة تتطلب أولا "أن يكون الملك جد متواضع، وثانيا أن يعرف كيف يتعامل مع السلطة، وليتاح له ذلك لا بد أن يكون الملك وطنيا حقيقيا، وعندما يكون الشخص وطنيا حقيقيا يعتبر نفسه على قدم المساواة مع الآخرين. يجب أن يتحلى بالوطنية والتواضع والتحكم في النفس، وعدم الانسياق وراء السلطة، بل بالعكس يجب على الملك أن يسخر السلطة وأن تكون هي المهيمنة عليه وليس هو المهيمن عليها".

وإذا كان الفلاسفة يعتبرون "الملكية" فنا، فإن الحسن الثاني بصفته ملكا متوجا يعي هذه المقولة معتبرا أنه إذا "كان الفلاسفة اليونانيون يقولون عن فن الملك إنه فن يشتمل على ما يكفي من المعرفة للفنون الأخرى (...)، بحكم التجربة أصبحت أعلم أن هذا الفن يتطلب معرفة متجددة باستمرار للقانون والديبلوماسية والاقتصاد وحتى الطب".

والملك الحسن الثاني يعتبر من بين الملوك ورؤساء الدول والحكومات الذين تمثلوا هذه القاعدة، "ولعل هذا ما سمح لجلالته بالدخول في أحاديث عميقة مع العلماء والفلاسفة ورجال الفن والخبراء وكأنه واحد منهم".

وللحفاظ على هذه المهنة صافية طاهرة يجب حمايتها ممن يسيئون إليها ولو من المقربين؛ ذلك "أن المسألة ليست في ممارسة الحكم، وإنما في حمايته من أولئك الذين يلوثونه بدءا من المقربين من الحاكم، أو أولئك الذين يعلنون ولاءهم له (...) إن ذلك يتم من خلال الحزم والصرامة".

وكأي مهنة، فإن الملكية محفوفة بالمخاطر فهي "طريق صعب مملوءة بالمخاطر الكامنة ومزروعة بالفخاخ. إن مصاعب هذه المهنة تتعلق طبعا بالطريقة التي تمارس بها"، والحسن الثاني مارس هذه المهنة بصفته ملكا يسود ويحكم؛ حيث حسم مبكرا إشكالية هل يسود الملك ويحكم؟ أم يسـود ولا يحكـم؟ فرد قائلا: "أما أنا فقد قمت بمهنة الملك، ولكوني أرغب أن أعمل وأنا واقف وقوفا تاما على السبب والدافع، فإن اهتمامي الأساسي ينصب على أن أكون على بينة صحيحة من الضروريات والمطامح الوطنية (...) ففي بلدي لكي يستطيع الشعب أن يعيش (...) يجب أن يعمل الملك وأن يأخذ بين يديه سلطاته، ويتحمل مسؤولياته".

ويضيف أن "المخاطر التي يتعرض لها ملك لا يحكم أبدا ليست على التأكيد من الأمور التي يمكن إهمالها، ولكن يخيل إليّ أن الملك الذي يحكم ليس أول من يتعرض للمخاطر (...) إن ملكا دنيويا لا يقبل إلا بكره منه "أخطار المهنة" يكون تافها، ولكن عندما يكون هذا الملك في نفس الوقت أميرا للمؤمنين تكون مسؤولياته أمام الشعب أكبر وأسمى من ذلك".

عبد الرحمان شحشي

*أستاذ علم السياسة والقانون الدستوري بكلية الحقوق – جامعة الحسن الأول بسطات