توطئة:

منذ بداية ولايتها الثانية بتعيين السيد العثماني على رأسها بعد مرحلة "بلوكاج" غير مسبوق في الدينامية السياسية المغربية، التي أثرت على كثير من المشاريع التنموية تؤدي البلاد الآن ثمنها باهضا، وجدت حكومة "البييجدي" نفسها تجر معها تبعات التناقضات وعدم التجانس بين مكوناتها، خطابا ورؤى ومواقف وتصريحات أنذرت بالتشظي والانفجار في أكثر من سياق وأكثر من موقف، لعل أخيرها وليس آخرها، الموقف من المقاطعة الشعبية المنطلقة من المنصة الافتراضية التي فرضت أمر الواقع بمقاطعة ثلاثة منتجات ذات رمزية ودلالة في الفضاء الماركنتيلي المغربي.

فإلى حدود ما قبل الوقفة الاحتجاجية للوزير المكلف بالحكامة، السيد لحسن الدودي، كانت الحكومة تدبر الأزمة في ما يتعلق بالمقاطعة تارة بالترهيب وتارة بالترغيب، وكانت تمارس سياسة اليد المكتوفة أمام هشاشة تركيبتها غير المعقلنة رغم وفرة حقائبها الوزارية التي بسريالية خارقة أصبحت الواحدة يتقاسمها أكثر من وزير، كالماء تمثيلا لا حصرا.

وأمام عبثية هذا المشهد الحكومي وغياب أي استراتيجية ناجعة للقضاء على التحديات المتراكمة في الشغل والقطاعات الاجتماعية من صحة وتعليم وخدمات، إضافة إلى تصلب شريان ما يسمى بالحوار الاجتماعي مع الفرقاء والشركاء الاجتماعيين وانسداد أفق الانفراج بركوب سياسة النعامة ولباس الأذن في غير اكتراث بالتداعيات المحدقة بأطرافها، تكون قد دقت آخر مسمار في نعشها.

لقد أبانت حكومة السيد العثماني عن تملصها من كل الوعود المعسولة التي كانت تمني بها نفوس المواطنين المقهورين، بل فعلت عكس ذلك فأوقدت النيران في الأسعار بعدم إخراجها لمجلس المنافسة وشجعت الاحتكار وأغمضت عيونها عن الفساد، واندلقت ألسنة بعض مكوناتها في سب وشتم المواطنين لمجرد أن رفعوا عقيرتهم ضد هذا الحيف الذي سلط عليهم، فكان سلاح الجماهير، بعد أن أعيته الحيلة، أن أشهروا المقاطعة في ذكاء وتبصر نادرين لم يربك فقط مكونات الحكومة، وإنما تعدى ذلك إلى كل الطيف السياسي الحزبي والنقابي والجمعوي إلى أن توج الموقف بخرجة الداودي النشاز في أعراف القيم الديمقراطية وأعراف التضامن الحكومي.

أخطاء قاتلة

على رأسها، وقفة الوزير أمام البرلمان وهو فيما يبدو يلقي الشعارات على مسمع أحد المحتجين ضحايا توقيف شركة الحليب سنترال. وهي سابقة بكل المعايير أن يقف عضو في حكومة ضد حكومته وفي مسألة تقع تحت طائلته/الحكامة، ناهيكم عن أخطاء أخرى شاهدناها في عيد العمال لما رأينا وزراء "البيجيدي" يصيحون منافسين العمال، فكاد أن يتشابه علينا البقر.

ومما زاد في الطين بلة، وبعد شعور الوزير بحرج وجسامة المسؤولية، تقدم بطلب الاستقالة إلى الأمانة العامة لحزبه، حسب ما ذكرته جل وسائل الإعلام، فهل يرجع الأمر إلى ضعف التجربة السياسية أو إلى انعدام التشرب بالثقافة الدستورية أم هو استهتار بالمؤسسات الدستورية؟

لا نملك جوابا قاطعا، بيد أن جسامة الخطأ لا يمكن تجاوزها بسهولة، خصوصا أنه بعد التداعيات والتعليقات هنا وهناك، تضاربت الأمانة العامة في بلاغين الأول يؤكد والثاني ينفي أي استقالة تقدم بها الوزير الداودي إلى الحزب، وهنا نلاحظ الارتباك الذي وقع فيه الحزب.

إن الجهة المخول لها دستوريا تقديم الاستقالة أو طلب الإعفاء معلومة بالضرورة من فقرات الفصل 47 من الدستور، حيث للملك أن يبادر، بعد استشارة رئيس الحكومة، في إعفاء عضو أو أكثر... كما لهذا الأخير أن يرفع إلى أنظار الملك طلب إعفاء عضو أو أكثر، سواء بطلب الاستقالة من المعنيين أو دونها.

وبعد كل هذه التراكمات السلبية في التدبير الحكومي لولاية العثماني، يطرح السؤال: ما جدوى استمراريتها والبلاد على صفيح ملتهب؟

ما البديل؟

أراني مضطرا لاستعمال مثل شعبي دارج مفاده "ملي كطيح البقرة كي كثرو اجناوى"، وهو نظير ما حدث لهذه الحكومة: فمن متربص مهرول إلى تقديم ملتمس الرقابة لإسقاط الحكومة وكأنه كان يتحين الفرصة، والمقصود حزب الأصالة والمعاصرة الذي بدل في رقم قياسي رأس قاطرته دون تغيير السكة ولا باقي العربات. واعتراضنا الضمني على هذه الخطوة كالتالي:

أولا دستوريا، حيث الفصل 105 صريح في الموضوع؛ إذ ينص: "لمجلس النواب أن يعارض في مواصلة الحكومة تحمل مسؤوليتها، بالتصويت على ملتمس الرقابة، ولا يقبل هذا الملتمس إلا إذا وقعه على الأقل خمس الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس".

وإذا سلمنا جدلا بأن المسألة العددية في صالح "البام" للتصويت على الملتمس، فإن ضعف المعارضة وعدم انسجامها سياسيا سيقف حائلا أمام تحدي الموافقة على الملتمس لأنه في هذه الحالة مطلوب من مجلس النواب التصويت بالأغلبية المطلقة المكونة لأعضائه، وهذا ضرب من الاستحالة لهشاشة المعارضة من جهة، وعدم تجانس مكوناتها من جهة أخرى.

ما الحل؟

في تقديرنا المتواضع، لا مناص من اللجوء إلى الفصل 47 من الدستور: وهذا يتطلب من رئيس الحكومة السيد العثماني أن يعلي من منسوب وطنيته وتجرده ويتقدم بالاستقالة إلى عاهل البلاد ليفسح المجال أمام البديل، أمام حكومة إنقاذ وطني تتألف من كل الأحزاب السياسية المعترف بها لفترة محددة تجيب فيها عن المستعجل من القضايا وتهيئ الأجواء لانتخابات سابقة لأوانها. فهل يفعلها رئيس الحكومة وهل يفعلها الملك؟

محمد العربي هروشي

*شاعر مترجم وباحث