إصلاح وتخليق وتأهيل الإعلام المغربي شرط أساسي لتحصين الاختيار الديمقراطي

يتفق العديد من المراقبين والفاعلين على اختلاف مواقعهم، وتباين قناعاتهم، ومشاربهم الفكرية والسياسية في المغرب تحديدا، على أن قرار الملك الراحل الحسن الثاني، بإطلاق القناة الثانية، عام 1989، كان يدل على رؤية سياسية استباقية، وعلى عبقرية استثنائية، أرادت توفير الشروط والعناصر الضرورية لصياغة إطار جديد للعلاقة بين الحكم ومختلف الحساسيات والمواقف السائدة في المغرب آنذاك.

ولتشعر المجتمع، وخاصة النخب السياسية والثقافية، بأن مغربا جديدا أصبح ممكنا، وأنه وبقرار سياسي من أعلى سلطة في البلاد، من حق المغرب أن يتوفر على وسيلة إعلامية تهيئ المغاربة فكريا ونفسيا، لعدد من الانتقالات، "سياسية وحقوقية واقتصادية وثقافية وجيلية...

ومن هنا، يفهم أن إطلاق مشروع القناة التلفزيونية الثانية لم يكن مجرد صدفة، أو نزوة إعلامية، أملتها العوامل الظرفية العابرة؛ بل إن هذا المشروع الإعلامي جاء في سياق التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي بات يعيشها المغرب منذ 1989، وفي خضم المتغيرات الدولية المتسارعة التي تميزت ببدء انهيار المعسكر الاشتراكي، ليأذن بنهاية الحرب الباردة، بما فيها الحرب الباردة التي كانت على أشدها على الصعيد الوطني بين الحكم والمعارضة اليسارية.

ومن هنا، نظر إلى القناة الثانية، وقت تأسيسها، بكونها منتوجا لرؤية استباقية، جاء ليلبي حاجيات ومتطلبات المجتمع المغربي، بأسلوب يعكس دينامية وتعددية هذا المجتمع، القائم على الانفتاح بمدلولاته المختلفة، والمسكون بالرغبة في اللحاق بركب التطورات، التي مست وسائط الاتصال الجماهيري في مختلف بقاع العالم.

اليوم، وبعد مرور أكثر من ربع قرن على إطلاق القناة الثانية وقبلها إذاعة البحر الأبيض المتوسط، وبعد سلسلة من التحولات والتطورات التي عرفها المغرب على كافة المستويات، وفي خضم متغيرات جذرية وأحداث متسارعة وتحديات كبيرة ورهانات أساسية، وفي مقدمتها تبني دستور جديد وتنظيم عدد من الاستحقاقات الانتخابية وتبني الجهوية المتقدمة تكريسا لدولة الجهات، أفرزت وقائع وواقعا سياسيا جديدا، وفي سياق هزات جهوية وإقليمية وفي ظل ارتفاع منسوب الاحتجاجات الاجتماعية، وبعلاقة مع تزايد الطلب الاجتماعي والسياسي على إعلام عمومي يجسد مفهوم المرفق العمومي ويرسخ قيم الحداثة والديمقراطية والتعدد والاختلاف"، ويرفع مستوى الأداء ويؤصل الدمقرطة والحكامة والشفافية في التسيير والتدبير، حتى يلعب دوره التاريخي في استشراف ومرافقة مشاريع الإصلاح داخل الدولة والمجتمع. وارتباطا بوعي المجتمع المغربي بكل مكوناته ونخبه بأهمية وحتمية صحافة ورقية وإلكترونية مواطنة ومهنية، تطرح ضرورة وملحاحية واستعجاليه إصلاح وإعادة هيكلة وتأهيل كل مكونات الإعلام المغربي لتستجيب للتطور السياسي والديمقراطي الذي يعرفه المغرب، ولتشكل مختلف القنوات والإذاعات العمومية والخاصة وشتى الحوامل والمكونات الورقية والإلكترونية فضاء يسهم في ترسيخ قيم المواطنة وثقافة الاختلاف، وإرساء الحوار السياسي المتحضر، والتناظر الفكري المنتج وإعطاء الكلمة للفاعلين والمسؤولين في هرم الدولة وللمجتمع بكل مكوناته ولمجمل ألوان الطيف الحزبي والمدني، وإبراز ثراء وعمق الهوية المغربية المركبة، واكتشاف نخب جديدة، وممارسة رقابة مهنية على مختلف المؤسسات من خلال نشر أخبار صحيحة ومعطيات سليمة في إطار تمكين المواطن من المعلومة والتي أصبحت حقا منصوص عليه دستوريا.

ويبدو أن المنافسة الإعلامية الشرسة، والولادة السريعة لمئات الفضائيات والمواقع الإلكترونية، جعلت المواطن المغربي أمام عدة اختيارات، دون أن يخضع لتوجيه أو رقابة، وهو ما يقوي مصداقية وشرعية البدء في تطبيق مخطط إصلاحي مدروس يستند على أهداف واضحة ودقيقة.

من هنا، تأتي أهمية تأتي أهمية التأهيل الشامل للحقل الإعلامي المغربي وتمكينه من آلية للحكامة الذاتية التي من شانها أن تلعب دورا مركزيا في ترسيخ المبادئ التي تشكل جوهر الممارسة الصحافية وتحفظ شرفها انطلاقا من الالتزام بمنظومة أخلاقية وقانونية، علما أن القوانين مهما كانت متطورة ومتقدمة ودقيقة لا يمكن أن تنتج ممارسة مهنية تؤمن وتحمي حق المواطن في إعلام متعدد وحر وصادق ومسوؤل ومهني، كما أنها لا يمكن أن تضمن لكل صحافية وصحافي الحق في النشر والتعليق.

إن العنصر البشري المؤهل والمؤطر، الذي يستند إلى خبرة وتجربة إعلامية كافية والمقتنع بالأخلاقيات الضابطة للنزاهة، هو العنصر الحيوي الذي سيضمن نجاعة ونجاح المجلس الوطني للصحافة في القيام برسالته وتطوير حرية الصحافة والنشر والحكامة الذاتية بما يضمن استقلالية وديمقراطية وشفافية ونزاهة هذه المؤسسة.

من المؤكد أن المجتمع المغربي بات يواجه منذ سنوات مجموعة من التحديات والأزمات والاختلالات، بما في ذلك أزمة المشاركة السياسية والعزوف الانتخابي، وضعف اداء المؤسسات وتقاعس الإدارة في تجويد الخدمات وهذا ما أكد عليه خطاب جلالة الملك بمناسبة الذكرى الـ18 لعيد العرش عندما قال بالحرف: "إن من بين المشاكل التي تعيق تقدم المغرب هو ضعف الإدارة العمومية، سواء من حيث الحكامة، أو مستوى النجاعة أو جودة الخدمات وأمام هذا الوضع، فمن الحق المواطن أن يتساءل: ما الجدوى من وجود المؤسسات، وإجراء الانتخابات، وتعيين الحكومة. فممارسات بعض المسؤولين المنتخبين تدفع عددا من المواطنين، وخاصة الشباب، للعزوف عن الانخراط في العمل السياسي، وعن المشاركة في الانتخابات؛ لأنهم، بكل بساطة، لا يثقون في الطبقة السياسية، ولأن بعض الفاعلين أفسدوا السياسة، وانحرفوا بها عن جوهرها النبيل..

وإذا أصبح ملك المغرب غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟

عطفا على ذلك يحق لنا أن نتساءل ما الجدوى من تأسيس مجلس وطني للصحافة، إذا كان جزء كبير من الجسم الصحافي غير مقتنع بالكيفية التي صيغ بها القانون المحدث للمجلس وكيفية انتخاب أعضائه والمعايير التي تم تحديدها للترشح والإجراءات المعقدة والوثائق الكثيرة التي يتعين توفيرها لإضفاء الشرعية القانونية على ملف الترشح؟

أعتقد أن أخطاء جسيمة ارتكبت عندما لم تناقش النصوص والمقتضيات المتعلقة بالمجلس الوطني للصحافة بشكل شفاف وعلني وعمومي وفي إطار تشاركي حقيقي؛ فمسألة اللائحة المغلقة وحدها كافية لتشكل دليلا قاطعا عن غياب التنافس الديمقراطي، لأن من وضع وصادق على هذه الآلية اشتغل بمنطق عددي وانطلاقا من مما يتوفر عليه من انخراطات ووسائل استقطاب وتأثير قابلة للنقاش، وهنا ينبغي البحث عن الجهة التي تتحمل المسؤولية بشكل مباشر. هل وزير الاتصال السابق الذي راهن على هذه المقاربة لاعتبارات نجهلها أم الجسم الصحافي الذي ربما تقاعس وتكاسل ولم يكلف نفسه عناء متابعة ما جرى أم المؤسسة البرلمانية التي تسرعت في المصادقة على تلك القوانين؟

إن أي ملاحظ نزيه وموضوعي لا يمكنه أن يقبل بمنطق اللائحة المغلقة، لأنها بكل بساطة تكرس الإقصاء والهيمنة والنزعة الشمولية. ومهما كانت الذرائع والتبريرات المقدمة من لدن المدافعين عن هذه الآلية الانتخابية فهي انزلاق قانوني غير مسبوق وليس فقط ثغرة تقنية بسيطة. وهذا ما يجعل جموع الصحافيين لا يثقون في مصداقية وجدية الأدوار التي سيضطلع بها المجلس الوطني للصحافة.

تأسيسا على ذلك دعت لائحة الوفاء والمسؤولية، في بيان صادر يوم 26 ماي الماضي، إلى إعادة النظر في عدد من المعايير؛ وفي مقدمتها تخفيض سن الترشح من 15 كتجربة إلى 10 سنوات، لتمكين عدد من الكفاءات والطاقات التي تنطوي على تكوين جيد وأداء مهني مقنع من المشاركة في الاستحقاقات المقبلة.

واعتبرت اللائحة نفسها أنه يتعين إشراك الصحافيات والصحافيين المغاربة في الخارج، بمن فيهم مراسلو ومسؤولو مكاتب وكالة المغرب العربي للأنباء في مختلف دول العالم، وكذا الصحافيين الذين يشتغلون داخل المغرب مع مؤسسات إعلامية أجنبية، في تركيبة المجلس كشكل من أشكال الإنصاف والاعتراف بما يمكن أن يقدموه من قيمة مضافة لهذه المؤسسة.

وتكريسا لمبدأ الإنصاف والعدل، دعت لائحة الوفاء والمسؤولية إلى إعادة النظر في التوزيع الحالي لممثلي القطاعات، بما يضمن التوازن؛ لأنه لا يعقل أن يمثل الإعلام السمعي البصري بعضوين ولو تطلب ذلك تعديلا قانونيا.

كما عبرت لائحة الوفاء والمسؤولية عن موقفها الواضح فيما يتعلق بضرورة إعادة النظر في عدد ممثلي الناشرين؛ لأنه منطقيا لا يمكن أن يمثل الناشرون بنفس عدد ممثلي المهنيين، أي 7 أعضاء لكل طرف.

منذ سنوات ظهرت اجتهادات ومحاولات كثيرة وعلمية لفهم ما يحدث من اختلالات وتراجعات في الحقل السياسي وعدد من المجالات، مجمل تلك الاجتهادات تجاوزت عامل الإعلام والتواصل عندما حذفته من المعادلة الصعبة. فحينما يشيح المواطن بوجهه عن رجل السياسة وعن أي مشروع أو مؤسسة، فإنه يؤكد لا مبالاته بمجمل القضايا الوطنية التي يفترض أن هناك "عرضا" بخصوصها يقدم للمواطنين. وهذا يعني أن الإعلام يتحمل هنا مسؤولية أساسية. فضلا عن أزمة القراءة التي أصبحت تضرب الصحافة المكتوبة في ظل الزحف الكاسح لمنصات التواصل الاجتماعي والصحافة الإلكترونية، حيث تعاني الصحافة الورقية من مشاكل بنيوية تؤثر قطعا على مضمونها، مضمون أصبحت فيه هوامش السياسة تتصدر الصفحات الأولى للجرائد بشكل يدفع المواطنين إلى المزيد من النفور من العمل السياسي، إضافة إلى غياب سيولة المعلومة والتدهور بين الحين والآخر لحرية التعبير، وهذه كلها عوامل تؤدي إلى تسطيح النقاش العمومي على صفحات الجرائد، في الوقت الذي يجب فيه على القنوات والإذاعات العمومية أن ترفع من وتيرة القرب من المواطنين ولعب دور القاطرة في تطوير وتأهيل وتجويد الإعلام السمعي –البصري. كما أن الإذاعات الخاصة لا ينبغي أن تصبح رهينة الهواجس التجارية، الشيء الذي يجعلها بعيدة عن قضايا السياسة والمجتمع والمجال العمومي لحساب الترفيه.

بكل تأكيد، هذه الأحكام نسبية وغير مطلقة؛ لكن تتقاسمها العديد من مكونات المجتمع المغربي، خاصة الطبقة السياسية والنخب الثقافية والنسيج المدني الفاعل.. وقد لا ترقى إلى مستوى الدراسات والإحصائيات العلمية الدقيقة، وهو ما يحتم التفكير في إنجاز استطلاع للرأي في الموضوع. وهذا ما يبرر بقوة الحاجة الملحة إلى إعلام وطني بكل مكوناته يقوم بوظيفة الإخبار وإيصال المعلومة وينصب اهتمامه على جوهر السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع وباقي المجالات.

إعلام يخاطب ضمير المواطن المعرض لأخطر أنواع الاستلاب في ظل طغيان قيم الشعبوية واللاعقلانية والتهريب الديني والروحي والهوياتي . كما هو الشأن بالنسبة إلى القنوات التي تهدد الأمن الروحي بسعيها إلى التأثير على الرأي العام المغربي.

هناك حاجة ملحة إلى مؤسسات إعلامية تتمتع بقدر أوسع من هامش الحرية والمبادرة. ثمة فرق كبير بين السياسة وكرة القدم من زاوية سوسيو-ثقافية؛ غير أن قوة وحرية الإعلام خاصة التلفزيون مكنت من تعبئة جماهير المواطنين حول مباريات وبطولات بعيدة عن بلادنا جغرافيا وعن هموم ومشاكل مواطنينا. وبإمكان الإعلام المغربي أيضا إذا ما توفرت الإمكانات والشروط الضرورية أن يقوم بنفس الدور. بدون شك هناك توجسات من حرية التعبير، وهذه المخاوف تتناقض بالمطلق مع قيم المشروع الديمقراطي الحداثي الذي انخرطت فيه بلادنا، وعدم مهنية بعض الصحافيين لا يمكن أن يكون مبررا لهذه المخاوف التي تنطوي على مخاطر كبرى؛ ذلك أن قمع الحرية بمبررات أمنية يعني عدم الصراحة وعدم الثقة واستمرار المشاكل نفسها التي أدت إلى العزوف السياسي مع ما ينطوي عليه من تعريض الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي للهشاشة.

وعليه، يمكن القول: ليس هناك أفضل من قنوات تلفزيونية وإذاعات وصحافة مكتوبة وإلكترونية تركز مضمونها حول تعبئة المواطنين للانخراط في الديناميات الإصلاحية والتحولات الإيجابية، والرفع من مستوى الوعي العمومي بطريقة مهنية، حيث يصير الحقل الإعلامي أداة لا محيد عنها، لتكريس السياسة بمعناها الخدماتي، أي أوراش التنمية وتحديات استكمال الوحدة الترابية للمملكة ومشاريع الحكومات وملاحظات الفرق البرلمانية وخروقات حقوق الإنسان وتسيير المؤسسات العمومية والسياسات الاقتصادية والمالية للدولة وعلاقاتها الخارجية.

ولا يمكن للمواطن أن يبدي أدنى اهتمام بشؤون بلاده ومشاكلها إلا إذا أحس بالفعل بأن حياته اليومية مرهونة حتما بما يصدر عن فضاءات البرلمان والحكومة والمجالس المنتخبة ومؤسسات الدولة من قرارات وما يواكبها من نقاشات وحوارات في مختلف وسائل الإعلام.

 

عبد الصمد بن شريف*


 

*وكيل لائحة الوفاء والمسؤولية.