لست أدري في هذه الظروف العصيبة، وطنيا، إقليميا ودوليا، وفي جو الاحتقان والاستهداف الذين يمر منهما المغرب ... لست أدري إلى أي حد يدرك الأمين العام الجديد لحزب الأصالة والمعاصرة درجة خطورة تصريحه "الانتخابي " في مجلسه الوطني الأخير، والذي قال فيه أنه جاء( هو أيضا ) لمحاربة "الإسلام السياسي" ، ليصبح أو ليؤكد بذلك عمليا أنه ثاني حزب سياسي يتبنى خط مواجهة "الإسلام السياسي" بعد حزب العدالة والتنمية ...نعم حزب العدالة والتنمية وعكس ما يعتقد الناس هو حزب مناهض للإسلام السياسي المغربي كما سنشرح لاحقا.

بالطبع فإن ما كان يجب أن نفهمه "سطحيا" من هذا تصريح الأمين العام الجديد للأصالة والمعاصرة، أو ما يراد لنا أن نفهمه منه هو أن الأمر يتعلق بصراع إيديولوجي بين حزبي البام مدعوما بتشكيلة من التنظيمات الموالية له من جهة، والعدالة والتنمية مسنودا بباقي التنظيمات التي تدعو لمرجعية إسلامية افتراضية أو فهم معين للإسلام من جهة أخرى. إلا أن هذا التصريح يثبت لنا أن الحزبين ليسا سوى وجهين لمشروع سياسي واحد.

إذا كيف ولماذا يعتبر تصريح بنشماش خطيرا ومبهما لهذا الحد ؟ لأن الإسلام السياسي في عمقه التاريخي هو السنة النبوية في تطبيقاتها السياسية وأبعادها التدبيرية لشؤون الجماعة البشرية التي كانت تعيش في الجزيرة العربية إبان الدعوة.

وانطلاقا من هذا التعريف الواضح والمختصر، فإن "الإسلام السياسي" هو كذلك وأساسا، روح وكنه وأهم مقومات استمرار الدولة المغربية منذ التأسيس في عهد المولى إدريس إلى اليوم، وليست إمارة المؤمنين في سياقها المغربي الخالص سوى سنام التعابير المؤسساتية للإسلام السياسي المغربي. ولذلك نرى أن حزب العدالة والتنمية ما فتئ يعمل على تملك هذا المفهوم وتبنيه سعيا منه، عن وعي أو عن غير وعي، لسحب الشرعية السياسية والتاريخية عن مركز السلطة في المغرب والمبنية أساسا على ركني الإسلام والنسب الشريف، بينما يسعى حزب الأصالة والمعاصرة من جهته لنفس الهدف عبر السعي لسحب المصداقية عن هذا المفهوم في أفق إلغائه واستبداله. ولذلك يعتبر التحالف بين الحزبين هو أخطر سيناريو يمكن أن يحدث في السياق التاريخي المغربي المعاصر لأن هذا التحالف سيشكل "كمّاشة" سياسية قد تسحق النظام السياسي المغربي وتستبدله بشيء لن يكون في جميع الحالات والاحتمالات إلا مخلوقا مروّعاً وسيئا وعبثيا.

إن استقراء واستذكار تاريخنا القريب، يُنبهنا إلى أننا وقعنا ولمدة عقود، ضحايا ورهائن لخطابات إقصائية وتحريضية هوجاء كانت تروجها "الحركات الإسلامية " حول ضرورة محاربة "الكفار" وضرورة الجهاد المقدس ضد طائفة من المغاربة، ذنبهم الوحيد هو اختلافهم الإيديولوجي مع تلك الحركات، مع ما تسبب فيه ذلك من مآس ما زالت تبعاتها تطفو على السطح بين الفينة والأخرى ...وها نحن اليوم نسمع انعكاسا لنفس الخطاب بمفردات مختلفة ربما ولكن بنفس الحمولة العنيفة والتحريضية حول مواجهة مفترضة للإسلام "السياسي".

وحيث إن "الإسلام السياسي" كما سبق أن بيناه، هو روح وعماد الدولة المغربية منذ التأسيس، مرورا بمجدها الإمبراطوري وصولا إلى إمارة المؤمنين مبنية على النسب الشريف، باعتبارها حجر الزاوية في النظام السياسي المغربي ، فإن دفع منطق الصراع ومواجهة الإسلام السياسي إلى حدود أبعد ارتكازا على خطاب السيد الأمين العام الجديد للأصالة والمعاصرة ، قد يعني في النهاية ارتكانا وتبنياً لممارسة سياسة مبنية على أساس عرقي.

فالظاهر من الأمر يبين أن هناك خلطا كبيرا على مستوى الممارسة ( أكان مقصودا أم لا ) بين محاربة "الإسلام السياسي" في نسخته المشرقية ومحاربة الإسلام، مما ينذر بتحول الأمر بعد ذلك إلى محاربة المقومات التاريخية والثقافية للإسلام كاللغة العربية (والمؤشرات على ذلك موجودة بالطبع ) ثم ينتهي الانزلاق إلى محاربة حَملة اللغة العربية ومتكلميها والمدافعين عنها، انتهاء بتصنيف عرقي للمغاربة، وبالتالي فإن هذا المنطق سيذهب بِنَا حتما نحو الحرب الأهلية وخراب الديار.

لذلك نعيد التذكير هنا، وحتى يتحمل كُلُّ مسؤولياته التاريخية، أنه ليس لدى المغاربة أي مشكلة حقيقية لا مع رواد المساجد ولا مع رواد الحانات، لا مع المؤمنين ولا مع غير المؤمنين، لا مع المسلمين ولا مع أتباع الديانات الأخرى، وأن ما نراه بين الفينة الأخرى من تطرف سلوكي في هذا الاتجاه أو ذاك، إنما يحصل بسبب البرمجة الإيديولوجية التي يخضع لها البعض...

أيها السيدات والسادة، مشكلة المغاربة الحقيقية والمستعجلة هي مع عقم الهيئات السياسية والمؤسسات المنبثقة عنها وتكلفتها ...مشكلة المغاربة هي انعدام العدالة الاجتماعية وغياب المساواة بين المواطنين وبين الجهات، مشكلتنا هي الفقر والتهميش ...لذلك كفى من التجييش والتهييج " والتهميج" والطنز ...

إن انسياقنا وراء الربط السطحي والسهل والماكر أحيانا لـ"الإسلام السياسي" ببعض الحركات والتنظيمات السياسية التي تستثمر في الخزان العاطفي للمسلمين والمغاربة بشكل عام، من أجل تحقيق مآرب سياسية، عِوَض ربطه بالمشترك والموروث الحضاري لكل المغاربة، إنما هو تنازل منا، من حيث لا نريد ومن حيث لا ندري، عن روح ومشروعية وشرعية الدولة والتاريخ الإمبراطوري المغربي، نتنازل عن كل هذا لجماعات وتنظيمات لا تمثلنا ولا تمثل لا الإسلام ولا التنوير بقدر تجسيدها لطموح سياسي مستعد لكل شيء من أجل الوصول إلى السلطة، ولا أدل على ذلك من استعداد هذه الجماعات لتغيير قناعاتها وبرامجها بشكل يكاد ينتقل من الشيء إلى ضده، في سبيل البقاء في السلطة، والأمثلة كثيرة جدا على ما نقول، حيث يكفي إلقاء نظرة موضوعية على انزلاق خطاب وممارسات حزب العدالة والتنمية مثلا منذ التأسيس في نهاية التسعينيات إلى اليوم..وفي ذلك عبرة.

وفي الجهة المقابلة وبناء على كل ما سبق، وجب التذكير بأن الادعاء بأن محاربة الإسلام السياسي هي من صميم المشروع الحداثي لا يعدو كونه وهما وادعاء وشعارا فارغا لا يمكن لأحد أن يبيعنا إياه، لأن الفكر السياسي الإسلامي ومنذ بدايته هو روح ومنبع وأصل الفكر الحداثي ... ومن أبدع في ذلك أفضل من ابن رشد فليأتينا به ...وليس ذلك سوى مثال من بين ألف مثال.