يبدو أن الأمم المتحدة أصبحت شاهد زور على ما تشهده كثير من مناطق العالم من حروب وصراعات وانتهاك للقانون والشرعية الدولية، ذلك أن عجزها ووقوفها موقف المتفرج أو مجرد مسجِل وموثِق للوقائع ولأعداد الضحايا يضعها في حالة تضاد أو انقلاب على مبادئها ومقاصدها التي تأسست من أجلها، الأمر الذي يشرعن أي تساؤلات حول الجدوى من استمرارية هيئة الأمم المتحدة بنظامها وبنيتها الراهنة.

كان الهدف الرئيس من تأسيس منظمة الأمم المتحدة عام 1945 عقب الحرب العالمية الثانية هو حفظ السلم العالمي وعدم ترك الأمر لتصرفات الدول منفردة أو جماعات، والتأكيد على هذا الهدف جاء نتيجة فشل عصبة الأمم السابقة لها في حفظ السلم العالمي وفي منع نشوب الحرب العالمية الثانية التي امتدت من 1939 إلى 1945 وأزهقت أرواح أكثر من خمسين مليون من البشر.

لا شك أن للأمم المتحدة والمنظمات المتخصصة المتفرعة عنها أدوار أخرى في مجال الصحة والتعليم والثقافة والبيئة وحماية الطفولة الخ. ودون التقليل من الجهود التي تبذلها المنظمة وهيئاتها المتفرعة عنها في المجالات السابقة إلا أن هذه الأدوار عوامل مساعدة للهدف الرئيس وهو حفظ الأمن والسلم العالميين وليس بديلا عنهما أو أن يكون دورها لاحقا كدور رجال إطفاء أو دفاع مدني يتحركون لإطفاء نيران الحروب ولإصلاح ما تخربه الحروب، وهذا ما يؤكد عليه ميثاق الأمم المتحدة وفي مادته الأولى حيث جاء:

"مقاصد الأمم المتحدة:

حفظ السلم والأمن الدولي، وتحقيقاً لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعّالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها، وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم...

إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام.

تحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً والتشجيع على ذلك إطلاقاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء.

جعل هذه الهيئة مرجعاً لتنسيق أعمال الأمم وتوجيهها نحو إدراك هذه الغايات المشتركة."

لا شك أن الأمم المتحدة حافظت على درجة من الموضوعية والفعالية لفترة من الوقت في ظل وجود النظام الدولي ثنائي القطبية ووجود دول عدم الانحياز وبسبب وجود أمناء عامين للمنظمة ذوي شأن وتقدير دولي. إلا أن الأمور بدأت تتغير بعد انهيار المعسكر الاشتراكي حيث أخذت الأمم المتحدة تفقد دورها تدريجيا سواء في مجال حفظ السلم الدولي أو في المجالات الأخرى بحيث بات تأثير دول وخصوصا الولايات المتحدة ومنظمات إقليمية وتكتلات وأحلاف بين مجموعات من الدول أكثر من تأثير هيئة الأمم المتحدة وأصبح العالم يعيش حالة أقرب للفوضى الدولية.

لا شك أن قرارات ومواقف الأمم المتحدة محصلة واقع موازين القوى بين الفاعلين الدوليين وخصوصا الدول العظمى المتمتعة بحق الفيتو في مجلس الأمن، إلا أن الأمم المتحدة ومن خلال أجهزتها ولجانها المتعددة ومن خلال أمينها العام تستطيع أن تلعب دورا في تحريك ملفات ذات أهمية ترى أنها تهدد السلم العالمي أو تمارس فيها دولة من الدول انتهاكات للقانون الدولي ولميثاق الأمم المتحدة أو ترفض تطبيق قرارات الشرعية الدولية، وفي جميع هذه الحالات يكون لشخصية الأمين العام دور مهم وحاسم.

ما يُؤخذ على الأمم المتحدة بعد انهيار الثنائية القطبية ضعفها وسلبيتها تجاه الصراعات الدولية وتخليها عن دورها في حفظ السلم العالمي ونصرة الشعوب الضعيفة، وقَبِلت على نفسها أن تكون مُلحقة بواشنطن ومنفذة لسياساتها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، أو تكتفي بالإشراف على إدارة الصراعات الدولية دون إرادة حقيقية بحلها وهذا ما يتعارض مع الهدف من تأسيسها.

فلم يشهد تاريخ الأمم المتحدة حالات ضعف وتراجع وتبعية للدول العظمى كما هو حاصل اليوم، بحيث يمكن القول إن الأمم المتحدة كادت أن تصبح إحدى أدوات السياسة الخارجية الأميركية في إعادة هيكلة العلاقات والحدود الدولية، بل إحدى أدوات الفوضى الخلاقة التي بشرت بها وتعمل عليها واشنطن لإعادة ترسيم وترتيب الشرق الأوسط والعالم بشكل عام، حيث تقف الأمم المتحدة موقف المتفرج على ما يجري من حرب أهلية وعدوان خارجي على شعوب هذه الدول، وفي حالات تكليف ممثل أو وسيط دولي فدوره يبقى هامشيا ورمزيا إن لم يكن شاهد زور على ما يجري، فالمفاوضات حول حل النزاعات سواء في اليمن أو سوريا أو ليبيا تديرها عمليا الدول العظمى حتى وإن كانت تحت إشراف ممثل عن الأمم المتحدة أو في مقر تابع للأمم المتحدة. نفس الموقف العاجز والسلبي وجدناه في موقفها من العدوان على العراق ثم احتلاله 2003 ونجده اليوم فيما يجري في الملف الكوري والإيراني.

أما بالنسبة لما يجري في فلسطين المحتلة فحدث ولا حرج، فعندما يقوم جنود إسرائيليون بالقتل المتعمد عن طرق القنص المباشر لواحد وستين مدنيا فلسطينيا في يوم واحد وهم يتظاهرون سلميا داخل حدود أراضيهم في قطاع غزة، وهو ما يعتبر جريمة حرب حسب قوانين ومواثيق الأمم المتحدة نفسها، ثم يعجز مجلس الأمن كأعلى جهة مقررة في منظمة الأمم المتحدة المنوط بها حفظ الأمن والسلم الدوليين وحماية الشعوب المستضعفة وحقها في تقرير مصيرها عن مجرد إصدار بيان إدانة لإسرائيل بسبب الفيتو الأميركي، فإن هذا يستجلب تساؤلا هل أن الأمم المتحدة بالفعل أعلى سلطة دولية ولا سلطة تعلو سلطتها أم أن هناك دول تعلو وتسمو على الامم المتحدة والقانون الدولي، وفي هذه الحالة ما هو جدوى وجود هيئة الأمم المتحدة.

هذا الموقف العاجز لدرجة التواطؤ يجعلنا نستحضر تاريخ الأمم المتحدة في التعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي منذ 1947 إلى اليوم، حيث وبالرغم من صدور مئات القرارات سواء الصادرة عن مجلس الأمن أو الجمعية العامة فإن أي من هذه القرارات لم تجد طريقها للتنفيذ، حتى عندما اعترفت منظمة اليونسكو بالدولة الفلسطينية وأصدرت قرارات منصفة للحق الفلسطيني تم مقاطعتها من طرف واشنطن وتل أبيب وتحولت قراراتها لمجرد نصوص على ورق، بل وكأنها رد على قرارات اليونسكو بشان القدس قام الرئيس الأميركي ترامب بالتوقيع على قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وتم بالفعل تنفيذ هذا القرار في ذكرى النكبة مما يمثل استفزازا صارخا ليس فقط للفلسطينيين والمسلمين والعرب بل للأمم المتحدة التي جعلت للقدس وضعا خاصا في قرار التقسيم لعام 1947 وقرارات دولية لاحقة اعتبرت القدس الشرقية أراضي محتلة يتم النظر بشأنها في مفاوضات الحل النهائي.

قد يقول قائل إن الخلل لا يكمن في منظمة الأمم المتحدة بل في واشنطن التي توظف حق الفيتو لتعطيل عمل المنظمة في حفظ السلام العالمي، وقد يقول آخرون إن الخلل في روسيا الاتحادية التي تعطل دور الأمم المتحدة في قضايا أخرى، وفي جميع الحالات فإن الأمم المتحدة أصبحت شاهد زور وهناك حاجة ملحة لإصلاحها جذريا أو عدم المراهنة عليها كليا فحل المشاكل الدولية وحفظ السلم العالمي وإنصاف الشعوب المستضعفة.

وبالنسبة للفلسطينيين. دون تجاهل الأمم المتحدة كمنبر دولي لإيصال المظلومية والرواية الفلسطينية لدول العالم وفضح الممارسات الإسرائيلية واستمرار التأكيد على الحق الفلسطيني في حدود ما تقره الشرعية الدولية ومع تقدير موقف مجلس حقوق الإنسان المنافح عن الحق الفلسطيني وهو ما تجلى اخيرا في قراره بإرسال لجنة تحقيق في المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة. إلا أنه يجب عدم المبالغة في المراهنة عليها، لا على مجلس الأمن ولا على الجمعية العامة ولا المنظمات المتخصصة ولا حتى على محكمة الجنايات الدولية التي حتى اليوم لم تفتح جديا أي من الملفات التي تم احالتها لها، وإذا استمر الفلسطينيون بالمراهنة على الأمم المتحدة فقط دون البحث عن أوراق قوة وتأثير أخرى فلن يحصدوا إلا مزيدا من القرارات التي ستبقى حبر على ورق أو انتصارات دبلوماسية وهمية، فيما سياسة الأمر الواقع المتعارضة مع قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية والتي تفرضها إسرائيل والولايات المتحدة لا تترك للفلسطينيين إلا أرضا أقل وحقا أقل.

د. إبراهيم أبراش