صديقي الحداثي جدّا، تَذكَّر أنه في السياسة مهما بلغ بك الغضب مَبْلغه، لا تنساق وراء أحاسيسك الجامحة. تَذكَّر أنك لم تعد طفلا يغضب لمجرد الألقاب والأوصاف التي يلصقها به رفاقه في الفصل. تَذكَّر أن جماعة "الأرثودوكس" هي وحدها من تصدر فتاوى هدر الدم في حق المخالفين أو المرتدين عن عقيدتها. أما وقد أعلنت انتسابك لمؤسسة تدعي لنفسها الدفاع عن قيم "الديمقراطية والحداثة"، فمن غير المنصف أن تصادر حق خصومك السياسيين في التعبير عن الرأي. تَذكَّر صديقي الحداثي شكليات السّادة السياسيين الموقّرين و"البولميك" المعهود في سلوكياتهم حين يصافحون خصومهم بالعناق الحار.

في السياسة يصعب عادة أن تكشف مناورات خصومك لقدرتهم على إخفاء شعورهم تجاهك حتى وإن كانوا في أوج غضبهم، ففي السياسة قد تخنق خصمك بالعناق الحار وقد تقتله بلطف وأدب. يحدث أيضا أن ترى السياسي تارة يقفز فرحا بأخطائه وتارة أخرى يجلد ذاته أمام الجمهور ليثبت صدق ونبل عواطفه. فقط لا تغضب صديقي ولا تدع مشاعر الحسرة عن فقدان "زعيم" عزيز على قلبك تفقدك السيطرة على النفس، وتذكر أن السياسة فن تناوري قبل أن تكون شيئا آخر، (lutter en s’amusant) كما يقول الفرنسيون. المهم أن لا تغضب!

تُعرف السياسة في الفكر السياسي الكلاسيكي بفن إدارة الصراع في المجتمع، هي إذن فن قبل أن تكون شيئا آخر. أن تَحسِب الحساب الدَّقيق للوضع السياسي القائم وتُحدِّد موقعك فيه وأي موقف عملي يقتضيه منك هذا الحساب، هو أيضا فن. في غمرة دفاعك عن موقعك وموقفك السياسي سَتُجابه موقف خصومك السياسيين، ستُقرِّر حينها أي تكتيك يناسب وضعك الذّاتي داخل ميزان القوى المتصارعة، الدفاع أو الهجوم، وهذا أيضا فن.

في صراع المنافسين الكبار، يُصافح الخصم منافسه على حلبة المصارعة قبل بداية الجولة، ولا أحد من الخصمين يعلم متى وكيف سينتهي به الأمر نهاية الجولة، قد يفوز وقد يسقط بالضربة القاضية. لكن يبقى الأهم هو الاحتكام لقانون اللعبة التي تشبه إلى حد ما "لعبة" السياسة التي تنتهي بدورها بسقوط أحد المشاركين خلال جولة من الجولات.

فَحِينَ قبلت صديقي باللعبة كنت بذلك قد قبلت ضمنيا بنتائجها وقبلت بالسقوط حتى وإن كان هذا لا يرضيك، ولا يرضي طموحك، لكن المؤكّد في هذه الحالة أن النتيجة ستُرضي الطّرف الخصم. ففي السياسة لا تسير الأمور دائما وفق ما يرضي أهواءك ورغباتك مهما كان تطلّعك للنجاح كبيرًا. فلو كان النضال يقوم ضمن ظروف تؤدي حتما إلى النجاح لكان من السهل صنع تاريخ العالم منذ أول صراع ضد القهر والاستبداد الطبقيين.

لا بد أن يكون أحد الطرفين (أو الأطراف) راضيًا حتى يكون في الجهة المقابلة طرف آخر ليلعب دور المعارض غير الراضي على الوضع القائم، وهكذا تَكْتمل أدوار اللعبة بين الأطراف، لأن فن وقانون الجدل في السياسة كما في الطبيعة يقوم على مبدأ "النقيض شرط لوجود نقيضه"، بمعنى أنه لن تقوم لك قائمة لا في السياسة ولا في الطبيعة حين لا يكون هناك مبرر لوجودك في الحياة، فحين نَصبت نفسك في موقع الدفاع عن قيّم "الديمقراطية والحداثة" قد وضعت نفسك ضِمنيا على موقع النّقِيض من قوى أخرى، قوى الاستبداد والظلام. وحين تكون المُقوِّمات الذاتية لوجودك في صف "العقل" تستمِد مشروعيتها من وجود نقيضك المنافي لقيّم العقل والحداثة، فهي ستنتفي بالنتيجة وستفقِد كل مبررات وجودها (المقوّمات) حين تَكُف هذه القوى نفسها عن الوجود وحين لن يبقى هناك داعٍ لوجودِها في الأصل، لأن الذي يُعطي المعنى للأشياء ليست هي الأشياء في حد ذاتها وإنما أضْدادها. الشّيء نفسه الذي يعبّر عنه ماركس بصيغة أن تحقيق مجتمع لا طبقي تنمحي فيه كل أشكال استغلال الإنسان لأخيه الإنسان يغدو ممكنًا حالما تكف الطبقة العاملة عن كونها طبقة اجتماعية وتضع حدًّا لوجودها كطبقة في المجتمع.

صديقي "الحداثي" جدًّا، أقدِّم هذا العرض المبسَّط أمام يديك حتى يتسنّى لك استيعاب فكرة مفادها أن الأنظمة السياسية، الطبقات الاجتماعية والأحزاب السياسية، وجودها على خريطة المجتمعات البشرية المتعاقبة هو وجود تاريخي، متغير وزائل وليس أزليا. أما أن يرفع "رفاق" الأصالة والمعاصرة روح "الزعيم" إلى مصاف الأرواح الخالدة التي حباها الله برعايته الأبدية دون سائر البشر، فهذا يحسب فقط لأصالة العقيدة القروسطية البائدة التي لا مجال فيها لأي نزعة معاصرة تُنَاشد التغيير وتَحْتكم لتطور التاريخ، تاريخ الأفراد كما تاريخ المجتمعات.

تقديس "الذات السلفية" عند رفاق "الحداثة" وتأليه رموزها، مخالف ليس فقط لمنطق الطبيعة والعقل القائل بزوال ظواهر وأشياء العالم المتغير، وإنما أيضًا تجعل من الفرد والرمز القوة الحاسمة في صُنع تاريخ البشرية، لأن من منظور المثالية الذاتية السائدة في تصور ومنطق فكر "الرفاق"، القوة المحركة لتطور المجتمعات البشرية وتعاقُب التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية هي الشخصيات البارزة في التاريخ، من زعماء سياسيين، علماء ومفكرين، قادة عسكريين، ملوك وأمراء، فهي بذلك ليست مجرد تعبيرات ذاتية عن الحاجيات الضرورية والموضوعية لعصرها كما يعبر عنها مارتينوف بليخانوف، وإنما كائنات اصطفاها الخالق لتكون صوته وظله فوق الأرض حيث لا حقيقة تعلو حقيقتها المقدّسة، وهذا من أبشع ما ابتُلِيت به المجتمعات القبلية المتخلِّفة حيث ينتصب زعيم القبيلة كجزء من الحل لفك بنية التخلّف المستشرية في مختلف مناحي الحياة الروحية والمادية للمجتمع، يستعرِض الزعيم أصوله الشّريفة وعِرقه الطاهر وهو نفسه الزعيم الذي يزعم تمثيل صوت العقل والحداثة.

صديقي "الحداثي" جدًّا، يكفي أن يكون عقلك داخل رأسك حتى تفهم دوافع كل هذه الجَلَبة التي خلقها السّقوط المرتقب للزعيم عند أتباعه ومريديه، فليس سقوط الزعيم هو نفسه ما زَجّ بأنصاره في دوّامة التَيَهان والحيرة، وإنما ما استتبع هذا السقوط من سقوط وزعزعة لاعتقاد ظلَّ لوقتٍ قريب راسخ في وجدان مريديه، الاعتقاد بوجود حقيقة واحدة ووحيدة لا تسكن غير الروح النقية للزعيم ولا أحد بإمكانه أن يشغل موقع الزعامة نيابةً عنه، وإلا لما احْتَار "الحداثيون" المحترمون في اختيار رجل المرحلة المناسب، ولما تعلقوا بأهداب الزعيم تعلق الرضيع بثدي أمه.

فقد أعلنت الحقيقة الوحيدة عن نهايتها حين أعلن الزعيم الوحيد عن نهايته، وهنا بالذات تكمن عقدة النقص في تصور "الحداثيين" المُتَصوّفين للحداثة، كما يقول ماكس بورن، إن الاعتقاد بوجود حقيقة وحيدة وبأنك أنت من يمتلكها، هو في نظري السبب الأكثر تجذّرًا لكل ما هو شرِّير في العالم. وهل حين يجازف أحد حراس المعبد بالقول "إن للبيت رب يحميه" تبقى هناك حاجة إلى الإطناب في الحديث لإثبات ما يَحْظى به بيتكم الموقّر من عناية إلهية فائقة دون باقي البيوت؟!


 

محمد بوجناح