لعل ركون الحكومة إلى صمت أبي الهول إزاء تساؤلات القوات الحية في البلاد، وانتصارها لاختيارات لا شعبية بل معادية لمصالح المواطنين، حكومة غائبة ولا مسؤولة عن معايشة الأوضاع واحتضان الأزمات والمقاطعات، حكومة أصبحت مواجهة بحكومة الفايسبوك ولا حول ولا قوة لها في مواجهة قنوات التواصل الاجتماعي الجريئة، بدأت برنامجها الحكومي بمحاربة الفساد وختمته بعفا الله عما سلف في الولاية السابقة، عاجزة أمام التحديات ومسؤولة عن التردي بجميع أشكاله سواء تعلق الأمر باستفحال الفوارق أو تفشي البطالة أو انتشار العجز البين في القضايا الاجتماعية المتوج بسياسة التفقير والإصابة باليأس والإحباط، ناهيك عما أثير ويثار ويستلزم بالضرورة محاكمة السياسة العامة للحكومة، كيف لا وتقرير اللجنة الاستطلاعية الأخير المتعلق بارتفاع أسعار المحروقات أفاد بأن أول مستفيد من رفع الدعم عن المواد البترولية وتحرير القطاع هو سياسة الدولة التي استفادت من توفيرها ما يزيد عن 35 مليار درهم سنويا وأن القطاع البنكي هو الذي استفاد من فترة المقاصة بحكم تغطيته لمديونية الدولة تجاه الشركات بفوائد عالية؛ بل إن شركات كبرى خسرت في سوق البورصة في الخارج، وربحت في المغرب ثلاثة أضعاف ما بين 2015 و2016 بعد تحرير أسعار المحروقات، علما أن الاعتقاد السائد كان يدفعنا إلى أن نراهن على أن هذا التحرير لن يضر بالمواطن؛ بل سيكون السبيل إلى التصدي للمعيقات الاجتماعية وبناء المرافق الحيوية، في حين اغتنى البعض من أصحاب الشركات الكبرى ولا يزال الوضع الاجتماعي والاقتصادي مزريا.

وأمام عدم استفادة المواطن الذي يواجه مختلف الأهوال يرى أن كرامته تهان ومعيشته تتدهور فيما أقلية من الناس تمارس نهب الثروات الوطنية وتغرق في التبذير والرشوة والفساد، وإهمال الخدمات الاجتماعية ونسيان التشغيل، وانتهاج سياسة التعتيم واساليب التهديد والوعيد، وفي حالات أخرى نهج أساليب السب والعبارات القدحية، كل هذه الأحداث تقودنا إلى محاكمة الحكومة وفضح سياستها المتسمة بالقصور، والارتباك والارتجال والضعف من أجل وضع حد لهذه السياسة التفقيرية اللاشعبية، وحث الأغلبية في البرلمان على تحمل مسؤوليتها في مواجهة الأزمات الخانقة والاحتقان الشعبي والتدهور الاقتصادي والاجتماعي.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن المغرب عرف أول ملتمس للرقابة سنة 1964 وقعه نواب حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وسمي آنذاك بالمؤامرة، بهدف سحب الثقة من الحكومة والذي تم ربطه آنذاك بأجندة خارجية يقصد بها الجزائر، إلا أن الفريق النيابي ربطه بتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والبطالة المتفشية والقمع والضغط في كل جهات المغرب، وكان الملتمس الذي استند على الفصل الـ81 من دستور 1962 والذي ينص على إمكانية الاعتراض على مواصلة الحكومة لمسؤولياتها عبر طلب يوقعه عشر أعضاء مجلس النواب ولا يصبح ساريا إلا اذا أقرته أغلبية الأعضاء، عبارة عن مفاجأة سواء بالنسبة إلى حزب الأغلبية وكان آنذاك هو حزب "لفديك" أو حتى للغير، إذ كانت معركة عنيفة بين مقدمي الملتمس وبين الحكومة التي قيل لها إنها نجحت في البقاء لكون الانتخابات لم تكن حرة ونزيهة، ولكنها انهزمت معنويا أمام جلالة الملك وأمام الشعب وحتى أمام نوابها .

أما ملتمس الرقابة الثاني الذي عرفه المغرب سنة 1990، فقد وقع الملتمس بخصوصه نواب فرق وأحزاب المعارضة بمجلس النواب المنتمين إلى كل من حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي، وقدم اعتبارا للنتائج المالية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أدت إليها السياسة الحكومية المتبعة القائمة على اختيارات لا شعبية والتي أوصلت البلاد إلى أوضاع متردية وأزمات متفاقمة مما أصبح ينذر بأوخم العواقب نتيجة معاناة المواطنين في حياتهم اليومية من جراء تقلص الدخل وضعف الأجور وارتفاع الأسعار وانخفاض القدرات الشرائية وتدني مستوى العيش وتفشي البطالة واتساع الأمية وانتشار الآفات وتدهور الخدمات الاجتماعية في ميادين التشغيل والتعليم والتكوين والصحة والإسكان، بالإضافة إلى التضييق المتواصل على ممارسة الحقوق والحريات العامة والفردية والسياسية والنقابية وامتهان للكرامة الإنسانية، وانتشار متصاعد للفساد الإداري والرشوة واستغلال النفوذ مع مظاهر البذخ والبهرجة والتبذير.

وقد اعتمد النواب آنذاك في تقديم ملتمس الرقابة على مقتضيات الفصل 75 من الدستور، معتبرين أن هذا المقتضى الدستوري يمنح أحزاب المعارضة بمجلس النواب فرصة لمحاولة إعطاء المصداقية لدور مجلس النواب ليقوم بدوره الدستوري في مراقبة الحكومة.

وإذا كان وضع ملتمس الرقابة هو مظهر من مظاهر تعزيز دولة القانون ودولة المؤسسات فهو تطبيق لحق دستوري يخوله أسمى قانون في البلاد للمعارضة للقيام بدورها داخل المؤسسة النيابية، خصوصا إذا علمنا أن نسبة عالية من المواطنين لم تعد تثق بالبرلمان وصار الاعتقاد السائد أن اللعبة النيابية مغشوشة وغير ذات جدوى؛ لأنهم لا يلمسون للمجلس التشريعي أثرا إيجابيا في حياتهم ومعيشتهم.

لذلك، فإن هذا المقتضى حتى وإن لم يحقق المبتغى بسبب الشروط التعجيزية فانه يفتح النقاش للقول بأن الثقة مسحوبة من الحكومة من لدن الرأي العام ودق نواقيس الخطر وبناء لبنة أخرى في تصحيح المسار الديمقراطي للمؤسسات الدستورية واستخلاص العبر.

وقد نص دستور 2011، الذي خوّل للمعارضة بمجلس النواب ما لم تخوله الدساتير السابقة، حق معارضة مواصلة الحكومة تحمل مسؤوليتها عن طريق التصويت على ملتمس الرقابة إذا وقعه على الأقل خمس الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس ولا تصح الموافقة على ملتمس الرقابة من لدن مجلس النواب إلا بتصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم وتؤدي الموافقة على ملتمس الرقابة إلى استقالة الحكومة استقالة جماعية.

ويعد هذا الملتمس من أخطر الآليات التي يتوفر عليها البرلمان الذي يجب ألا يظل مجرد غرفة للتسجيل، فهل سيعيد التاريخ نفسه أم تبقى دار لقمان على حالها في غياب إنذار حقيقي للطبقة السياسية بالمغرب يوقظ الأحزاب من السبات العميق واللامبالاة والتوحد، ويوجب على حكومة الأخطاء أن تعترف بأخطائها واختياراتها المهملة لحاجيات الشعب المغربي.

سليمة فراجي

*محامية - نائبة برلمانية سابقة