على الرغم من الممارسة الطائفية، أقوالاً وأفعالاً، لدى القوى السياسية الإسلامية المتصدرة المشهد منذ 2003، لم يجرؤ حزب ولا منظمة بإعلان كيانه الانتخابي باسم الطائفة، مع أن الخطاب الطائفي كان على أشده، ومن قِبل الوزراء ورئيسهم قبل غيرهم. فلو تطّلع على أسماء القوائم في الدورات الانتخابية الأربع لأعوام 2005، 2010، 2014 و2018،  ستجدها مسميات يشع منها نور الوطنية والعدالة وطلب السَّعادة للعراقيين، «ائتلاف وطني»، «وفاق وطني»، «سلام»، «دولة قانون»، «رفاه»، وأُضيف لها في الانتخابات الأخيرة «النَّصر»، و«الفتح المبين»، و«سائرون».. إلخ. لكنَّ الناخبين، في ما سبق، حُشدوا طائفياً، ولما الذريعة «قد ركت مِن تقادمها»، اعتاضوا عنها ربط التصويت للمرشح لمنصب ما بالتَّدين، حتى ظهر أحد الوزراء الدعويين معلناً أن لا يكون أمين العاصمة إلا صائماً مصلياً، وبعدها تأتي المهارات والخبرات، وكأنه يريد إمام مسجد لا أمين عاصمة.

كذلك صرح أحد الإسلاميين، المطرود من حزبه لاتهمامه باختلاس التبرعات التي تصل الحزب عن طريقه، بأن رئيس وزراء العراق بالضرورة يجب أن يكون مصلياً صائماً، وبرر ذلك بأن الإسلاميين ضحوا كلَّ هذه التضحيات من أجل أن يسود التدين، فلا يرتضون برئيس وزراء لا يلتزم بسمات التّدين! لهذا تبرأ العبادي علانية من سماع الأغاني. نشر أثناء كتابة الدستور أحد رجال الدين السياسيين، الذي يتصدر اليوم المشهد مع ولده في إحدى المحافظات، دستوراً مقترحاً من قبله، اشترط فيه أن يكون عضو البرلمان قائماً صائماً، وذلك لضمان الحفاظ على إسلامية العراق! ثم ظهر فقيه حزب إسلامي وأفتى بتحريم انتخاب العلماني، وعُلقت الفتوى في الطرقات العامة. أيضاً سارع حزب «الدعوة» وسبق الانتخابات الأخيرة (2018)، من على فضائيته، ببرنامج «حديث الجمعة» يُحرض فيه ضد غير الإسلاميين، وربطهم بالكفر دفاعاً عن الدين كما يدعي. حتى تجرأ واعتبر الحرية منحةً من الإسلاميين! أقول: تجرأ بنفاق مفضوح لأن العراقيين يدركون أن الغزو الأميركي هو الذي فك عقدة من لسانه، وجعل حزبه يمتلك فضائيات وعقارات كغنائم من الدولة!

صبغ العراقيون سباباتهم بالحبر الأزرق، وهذه المرة الرابعة، وقبلها واحدة كانت للجمعية الوطنية، أملاً في «الفرج بعد الشدة»، وعلى حد ما نظمه يوسف التَّوزري (ت 513هـ) في «المنفرجة»: «اشتَدي أزمَةُ تَنفَرِجي/ قَد آذَنَ لَيلُكِ بِالبَلَجِ/ وَسَحَابُ الخَيرِ لَهَا مَطَرٌ/فَإِذَا جَاءَ الإِبّانُ تَجي» (الأنصاري، أضواء البَهجة في إبراز دقائق المنفرجة). غير أن هذا الأمل في الحبر الأزرق، وآذان حلكة الليل بالبلج، قد قلل منه رئيس «ائتلاف دولة القانون»، الذي لم يُسأل، يوم كان رئيساً للوزراء وقائداً عاماً للقوات المسلحة، عن قتلى «سبايكر»، وعن سحب فرق الجيش العراقي من الموصل، المدججة بالثقيل والخفيف من السلاح، لتهزم أمام بضعة مئات من المقاتلين. نقول قتل الأمل بالحبر الأزرق عندما كشف عن توقيع وثيقة داخل «الدعوة»، بين «دولة القانون» و«النصر» كي تبقى رئاسة الوزراء بيد حزبه، الوريث لأصحاب مقولة «جئنا لنبقى»! بينما كان الأمل أن لا يستمر هذا الحزب أكثر مِن ثلاثة عشر عاماً في رئاسة السلطة التنفيذية. الأمل أن يتجاوز حيدر العبادي عقدة الحزب، وقد كسب شعبية غير قليلة، كي يفطم نفسه مِن كيان صار عبئاً على الناس، لا أن يشترك في خديعة جديدة.

كان الحماس للانتخابات في دورتها الرابعة، ليس كالسابقات، فإذا دعا رجال دين سنّة إلى المقاطعة في الدورة الأولى (2005)، وتحمس لها رجال دين شيعة، ظهر في هذه الدورة منهم مَن يدعو إلى المقاطعة، على أن «المجرب سيُجرب»، خلاف ما أعلنه وكلاء المرجعية: «المجرب لا يجرب». فعلى ما يبدو سيجرب أفظع المجَربين صاحبي قائمتي «الفتح المبين» و«دولة القانون»، والاثنان عنوانان كبيران، فـ«الفتح المبين» آية قرآنية: «إِنا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِيناً» (الفتح:1). يدرك العراقيون أن لصاحب قائمة «الفتح» عاطفة ومولاة مع دولة أجنبية علانية لا سراً! ولم يُقبل يد الولي الفقيه أمام الملأ، وهو الوزير، نفاقاً وإنما إخلاصاً، ويتذكرون أن وزارته للمواصلات منعت طائرة من الهبوط في مطار بغداد، لأنها قلعت في وقتها ولم تنتظر نجله السائح ببيروت؟! أما «دولة القانون» فأمرها أمر. يشرئب صاحبا القائمتين لرئاسة الوزراء، على قاعدة «المجرب يُجرب»!

لستُ يائساً، لكن الحبر الأزرق لا يشق الظلام بهذه السهولة، ولحلكته، يتمثل كثير مِن العراقيين بأبي العلاء المعري (ت 449هـ): «قد نِدمنا على القبيحِ فأمسَي/ نا على غير قَهوةٍ نَتَنادم/ وبصير الأقوام مثليَّ أعمى/ فهلموا في حندس نتصادم» (لزوم ما لا يلزم). العذر أن الحندس صار القاعدة، ولا عُذر لصاحب مقولة «المجرب لا يُجرب»، لأن الخطأ الجسيم، الذي باركه أول الأمر، أصبح عُرفاً ثابتاً! حتى أمسى القبيح في ماضينا جميلاً في حاضرنا!


رشيد الخيّون