اختارت إسرائيل قتل عشرات الفلسطينيين في الوقت الذي كان وفد أميركي رفيع المستوى يشارك في افتتاح السفارة الجديدة للولايات المتحدة في القدس. لم يتحدد موعد لافتتاح السفارة الجديدة التي تشكّل ترجمة على الارض لاعتراف الرئيس دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل صدفة.

كان تاريخ نقل السفارة من تلّ بيب الى القدس وافتتاحها مقصودا. حصل ذلك قبل يوم واحد من الذكرى السبعين لـ"النكبة". ثمة من يريد تذكير الفلسطينيين بانّ نكبتهم مستمرّة وانّ شيئا لم يتغيّر في القرن الواحد والعشرين. لا تزال إسرائيل تمارس إرهاب الدولة الذي مارسته منذ ما قبل قيامها ولا يزال الفلسطينيون عاجزين عن التعاطي مع الواقع، خصوصا مع موازين القوى التي تتحكّم بقضيتهم. كان هذا العجز عن فهم موازين القوى في أساس "النكبة".

من ولد يوم "النكبة" صار عمره الآن سبعين عاما. على الرغم من ذلك، أي على الرغم من مرور كلّ هذه السنوات على اقتلاع الفلسطينيين من ارضهم وقيام دولة إسرائيل، لم تمت الهويّة الفلسطينية بعد. هناك فلسطينيون ما زالوا على استعداد للموت من اجل تأكيد ان قضيّة شعبهم حيّة ترزق على الرغم من ان "النكبة" ولدت نكبات أخرى من المحيط الى الخليج بسبب سوء التعاطي مع نتائج "النكبة" الاولى.

جاء افتتاح السفارة الاميركية في القدس في ظلّ تجاهل عربي شبه تام للحدث. هناك من يريد احراج العرب عموما والمزايدة عليهم. دفع هذا الطرف الذي يريد احراج العرب والذي يعمل انطلاقا من غزّة عشرات الفلسطينيين الى الموت المجاني لا اكثر. ليس معروفا من اجل ماذا قتل كلّ هؤلاء الفلسطينيين الذين تجمعوا عند الحدود الدولية بين إسرائيل وقطاع غزّة وراحوا ينادون بـ"حق العودة". نعم، لا تزال قضية فلسطين حيّة ترزق. هناك هويّة فلسطينية لا يمكن محوها. لكنّ الموت المجاني لشبّان فلسطينيين لا يقدّم ولا يؤخر، خصوصا انّ هناك من يستغله لأغراض خاصة به لا علاقة لها من قريب او بعيد بفلسطين والقضية التي كانت الى ما وقت قريب القضيّة الامّ في المنطقة.  

ان يتصرّف العرب بالطريقة التي تصرّفوا بها يدلّ على وعي لخطورة المرحلة التي تمرّ فيها المنطقة كلّها. لم تعد القدس وحدها مهددة، بل ان وضع القدس، على الرغم من الاحتلال المستمرّ منذ 1967 يظلّ افضل بكثير من أوضاع عدد كبير من المدن العربية في منطقة تتباهى فيها ايران باحتلال اربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.

في الواقع ليست هناك اربع عواصم عربية مهدّدة فحسب، بل هناك ايضا مدن عربية جرى تغيير لطبيعتها او محوها. من بين هذه المدن بغداد والبصرة والموصل. ازيلت الموصل  تقريبا من الوجود. مدينة عراقية اصيلة وقديمة قِدم الموصل صارت شيئا من الماضي. ما ينطبق على الموصل، ينطبق أيضا على حلب وحمص وحماة. لم يعد في هذه المدن من يدافع عنها. في المقابل، لا يزال اهل القدس يرفعون الصوت عاليا من اجل تأكيد هويتها العربية وانّها ما زالت ترفض الرضوخ لارادة الاحتلال الذي صار مدعوما اميركيا.

لا حاجة الى تكرار انّ في أساس "النكبة" ذلك الإصرار العربي على تجاهل موازين القوى وعلى تجاهل المنطق. ليس معروفا الى الآن لماذا لم يقبل العرب قرار التقسيم في العام 1947 ولماذا شنّوا حربا في 1948؟ ولماذا كرروا تلك التجربة في 1967؟

لا أجوبة واضحة بعد تفسّر سبب ارتكاب كلّ هذه الأخطاء، بما في ذلك دفع لبنان الى توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969. كيف يمكن لعاقل ان يعتقد ان في الإمكان تحرير فلسطين انطلاقا من لبنان او من الأردن. هل من تفسير آخر غير ان منطق اللامنطق هو السائد الى يومنا هذا؟

ارتكب العرب كلّ الأخطاء الممكن ارتكابها من اجل ان تتحوّل "النكبة" الى نكبات. لا يوجد حاليا شخص يمتلك ما يكفي من الشجاعة للقول ان التضحية بعشرات الشبان على طول الحدود بين غزّة وإسرائيل لن يعيد فلسطينيا واحدا الى فلسطين. تماما مثلما ان حرب لبنان، وقبلها حرب الأردن، لم تعيدا أي فلسطيني الى فلسطين.

بين 1948 و 2018، أي منذ يوم النكبة الى يوم افتتاح السفارة الاميركية في القدس، هناك ثلاثة احداث يمكن التوقف عندها. الحدث الاول هو استعادة مصر كلّ أراضيها المحتلّة في العام 1967 بفضل رجل اسمه أنور السادات قرر ان يذهب الى القدس ويخطب في الكنيست ويقول: "جئت اليكم حاملا سلام الشجعان وليس سلام المغلوب على امرهم".

وهناك ثانيا ياسر عرفات الذي وقّع اتفاق أوسلو في حديقة البيت الأبيض. قطع خطوة في رحلة الالف ميل من اجل إقامة دولة فلسطينية "قابلة للحياة" وذلك على الرغم من كلّ نواقص اتفاق اوسلو. لم يقرأ "أبو عمّار" نصّ الاتفاق الذي سمح له بالعودة الى ارض فلسطين. لم يعرف يوما ما هي إسرائيل وما هي السياسة الإسرائيلية وما هو المجتمع الإسرائيلي. لم يستوعب معنى اهمّية التحرّك بسرعة لعقد اتفاق ما يمكن البناء عليه، بدل ترك كلّ قوى الشرّ، على رأسها إيران ونظام حافظ الأسد، تعمل من اجل افشاله. سيظل ياسر عرفات على الرغم من كلّ اخطائه في الأردن ولبنان ومرحلة ما بعد اوسلو رمزا للهوية الوطنية الفلسطينية التي لا تزال تقاوم الاحتلال من دون تجاهل الواقع المتمثل في انّ الخيار المطروح في مرحلة ما وهو خيار الدولتين لم يعد قائما. هذا ما كانت تسمح به موازين القوى، لو عرف الفلسطينيون معنى عامل الوقت وكيف استغلال الفرص المتاحة التي قد لا تتكرر يوما.

وهناك ثالثا الملك حسين، رحمه الله، الذي عرف ان ذهاب الفلسطينيين الى توقيع اتفاق أوسلو يحرّره من أي التزام تجاه الضفّة الغربية التي سبق له ان اعلن "فك الارتباط" بها في صيف العام 1988. وقعت الحكومة الأردنية، بعد سنة وشهر من توقيع الفلسطينيين اتفاق أوسلو، معاهدة سلام مع إسرائيل في وادي عربة. انقذ الحسين الأردن والاردنيين. حصل ذلك في وقت لم يرد حافظ الأسد يوما استعادة الجولان، بل كانت عينه في كلّ وقت على كيفية تخريب لبنان وتدميره واستخدامه ورقة في ابتزاز العرب والعالم. وهذا ما تفعله ايران الآن.

في عالم لا يرحم، هناك في 2018 بحث عن مكان للعرب على خريطة الشرق الوسط. لم تستطع فلسطين، التي وجدت لنفسها مكانا على الخريطة السياسية للمنطقة والعالم، ان تجد مكانا على الخريطة الجغرافية. لم يعد المطروح البحث عن مكان على الخريطة لفلسطين، بل هل لا يزال في الامكان الكلام عن بلد اسمه العراق او سوريا او هل في استطاعة لبنان المحافظة على نفسه في ضوء الهجمة الايرانية التي كان افضل تعبير عنها طريقة تصرّف "حزب الله" في الانتخابات الأخيرة.

خيرالله خيرالله