الفلسطينيون ما زالوا يروون ثرى أرضهم الطاهرة بدمائهم الزكيّة، وما انفكّت الآلة الحربية الإسرائيلية المتوحّشة تقتّل وتنكّل بهذا الشعب بدون رحمة ولا شفقة، وما فتئت إسرائيل تزجّ بأبنائه وبأحفاده في غياهب وظلمات جحيم السجون المعتمة، ليحرموا ليس فقط نعمة صلة الرّحم مع ذويهم وأهاليهم وأقربائهم والهواء الطلق، والنّسيم العليل، وزرقة السماء، ونور الضياء، بل ليحرموا كذلك من القوت اليومي لسدّ الرّمق، والعيش الهانئ الكريم، وما انفكّت الأنفس تتنفّس الصعداء، وتعدّ العدّة للمراحل القادمة الحاسمة من كفاح هذا الشعب، وما برحت ألسنة اللّهب تتصاعد، وأعمدة الدخان تتعالى في كلّ مكان.. إنّهم يستشهدون من أجل بلادهم لأنّهم صادقون في حبّهم، وتفانيهم، وإخلاصهم لها.

لقد عملت الصّهيونية العالمية منذ إبعادهم واقتلاعهم، وإقصائهم من بلدهم عام 1947 بلا كلل، بدون هوادة من أجل القضاء ليس فقط على هذا الشعب واستئصاله من جذوره، وطمس شخصيّته، واجتثاث هويّته، ومحو كل أثر له، بل إنّهم حاولوا محو حتى جغرافيته، وتاريخه في حملات مسعورة باستعمال مختلف ضروب الحيل، وأنواع الأكاذيب، وأصناف الدسائس، والخسائس، والمكر، والمكائد لتحقيق هذه الغاية الدنيئة. ثمّ انطلقت الثورات، والانتفاضات المباركة الواحدة تلو الأخرى، حيث طفق هذا الشعب المغوار في كتابة صفحات جديدة من تاريخه النضالي الناصع، حاملاً رمز كفاحه، وسمات صموده وثورته الكوفية الفلسطينية المرقّطة، والمنديل الفلسطيني المميّز، وأغصان الزيتون، وإرادة لا تقهر أذهلت العالم، وهكذا أعاد هذا الشعب إحياء هويّته وإنقاذ جذوره، واسترجاع ذاكرته التاريخية، والثقافية، والتراثية الجماعية من تحت يباب الأنقاض.

إنها أحداث تاريخية مؤلمة، ومفاجآت خبّها القدر لأبناء فلسطين البررة الذين رمت الأقدار بالعديد منهم خارج وطنهم، وبعيداً عن أرضهم، وعن ذويهم، وأحبّائهم، وخلاّنهم قهراً، وقسراً، ورغماً، وعنوةً، فانتشر منهم الكثير في بلاد الله الواسعة في غياهب المهاجر، ومحاجر الاغتراب، من أقاصى أصقاع العالم إلى أقاصيه، ولكنّهم على الرّغم من نأيهم عن أرضهم، وبعدهم عن طنهم، ظلّوا مشدودين إليها، متشبّثين بحقوقهم المشروعة؛ ذلك أنّ" النواة" أو" المادة الخام" التي صيغ منها هذا الشعب هي مادّة من نوع خاص، فقد ألهمه الله وأعطاه طاقة لا تُقهر من الصّبر والجلد والأناة والتحمّل والتمرّس، والمواجهة والمقاومة والتحدّي، والإصرار، والصّمود، والصّدود.

مسألة بقاء أو لا بقاء

لم يقتنع الأشقّاء بعد بأنّ المسألة مسألة بقاء أو لا بقاء ليس إلاّ، أي أن نكون أو لا نكون، إنّهم فقط يذرفون الدّموع حرّى ساخنة، وينزوون بأنفسهم لينظموا لنا كلمات مؤثرة مسجوعة، مشحونة بالغضب والانتقام.. وتمرّ الأيام، وتتوالى الليالي، وفي رحمها وخضمّها تتولّد وتستجدّ الأحداث، وننسى أو نتناسى ما فات، المآسي ما زالت تترى وتنثال أمام أعيننا، وعلى مرأى ومسمع منّا، فيشاطرنا العالم طوراً أحزاننا، وأحيانا يجافينا... ونكتفي بالتفرّج، والتصفيق، والتهليل، والتأوّه، والتحسّر بلغة مؤثّرة باكية، شاكية، كئيبة، حزينة مذلّة. أمّا الآخرون فإنّهم يتعنّتون ويتمنّعون ويتمسّكون بكل" شبر" سلبوه، وبكلّ "مدينة طاهرة" علِقوا بها، يبسطون نفوذهم وتأثيرهم ليس على الأرض وحدها، بل على شغاف الأفئدة والقلوب، والعقول، والألسن وهم ماضون في غطرستهم، متمادون في تبجّحهم، وكبريائهم... ما أكثر لوحات التكريمات التي نزهو بها، وتمتلئ بها دورنا، وتعلو جدران قصورنا وبيوتاتنا، وما أكثر النياشين والأوسمة التي تنمّق صدورنا، وما أكثر ما نعود إلي التاريخ لنستلهم منه الدروس والعبر، والتجارب والحِكم، ونستشفّ منه معنويات جديدة لاستئناف مسيرتنا..!

نحن قوم رحماء بغيرنا، نذود عن حوضنا وجيراننا بسلاحنا، ولكنّنا قوم مشهود لنا ومشهورون بالصّفح والتسامح، رحماء بالصّغير والكبير، والقويّ والضعيف، معروفون بهذه الثنائية المركبّة التي تجمع بين الجلد واللين، والبأس والشدّة، والقوّة والرّخاوة، والصّلابة والطراوة.. ! أمّا هم فلقد اقتدّت الرّحمة من قلوبهم، وكأنّها قلوب صيغت من فولاذ صلد، لا يفرقون بين الصّغير والكبير، إنّهم ينكّلون بدون تمييز، وعزاؤنا الوحيد أنّ التاريخ يسجّل لهم "المجازر" ويدوّن لنا "المفاخر".. ويظلّ العالم في كلّ صُقعٍ من أصقاعه يتفرّج بدون اكتراث، ولا مبالاة.

الإضرابات المتوالية للأسرى الفلسطينيين التي تعرفها السّجون الإسرائيلية الرهيبة بين الفينة والأخرى تزيد من تأجيج الوضع القائم على مختلف المستويات، هذه السّجون التي لا تعرف معنى للشّفقة والرحمة، حيث تضرب إسرائيل عرض الحائط بكلّ العهود، والمواثيق الدّولية ذات الصلة بحقوق الإنسان أو حقوق "الأسرى" المعترف بها دولياً، ناهيك عن سوء المعاملة التي يُوسَم بها هؤلاء داخل هذه الدهاليز المظلمة، وتعرّضهم لأقسى وأعتى ضروب التعذيب والتنكيل التي يعانون منها بدون انقطاع؛ وهو ما أدّى بالعديد منهم إلى الاستشهاد داخل هذه الأقبية السّوداء المظلمة، وما انفكّت براكين الغضب الفلسطينية الهادرة تقذف حِممها وشظاياها إلى عنان السّماء من جرّاء هذه المعاملات التي لا تمتّ إلى الإنسانية بصلة، ولقد بلغ هذا الغضب مداه في المدّة الأخيرة، عند استشهاد غير قليل من الأسرى الفلسطينيين الصّناديد داخل هذه السّجون، واستمرار المواجهات الشّعبية، والجماهيرية على جميع الأصعدة مع قوات الاحتلال، والمطالبة بالردود الحاسمة على هذه الجرائم الآثمة، وسواها من التجاوزات الخطيرة التي تقترفها السّلطات الإسرائيلية بدون خجل أو وجل، ممّا ينذر بقرب انطلاق انتفاضات جديدة غاضبة التي يحسب لها الخصمُ العنيدُ ألف حساب وحساب.

سبعون حولاً من المعاناة

سبعون حولاً من المعاناة مرّت على هذه النكبة البغيضة، التي لم تعد نكبة فلسطين وحسب، بل أمست نكبة العرب أجمعين، نكبة فكرهم، وخنوعهم، وتخاذلهم، ونكوصهم، وتراجعهم، واستسلامهم، وما زلنا نستذرّ عطف العالم ونستجدى رحمته، ورضاه، وما فتئنا نصف له الأهوال، والأحوال والفظائع التي ترتكب في حقّ هذا الشعب، والجيرة من الأشقاء ما برحوا يحلمون، إّنهم ما برحوا منشغلين بأمورهم، منبهرين مشدوهين بالأوار المُستعر وسط ساحاتهم، وميادينهم، وحول مرابضهم، وأرباضهم، وضيعهم، ومداشرهم، وقراهم، وداخل بيوتاتهم، وأحيائهم، أمّا هم، هؤلاء الأبعدون، فمنذ أن دنست أقدامُهم أرضَ السّلام، ما انفكّوا يفتكون وينكّلون.

ما فتئ إخواننا الفلسطينيون يعانون من مختلف ضروب التعنّت والتنكيل الإسرائيلي على الأرض في مختلف المناطق والجهات الفلسطينية، أنّهم ما انفكّوا يعانون الشّقاق اللعين، والتشرذم، والخلافات، والتباعد والتنابذ، ويكاد التصدّع أن يصيب صرحَ وحدتهم الوطنية المنشودة، وما زال الأمل المأمول معقوداً على حُسن التصالح والتسامح والتصافح، وضرورة التقارب والتصافي، وإقصاء التجافي، وترجيح التداني والتفاهم، ورأب الصّدع والتئام الفصائل، وتسخير وتفجير كلّ الطاقات، واستغلال كلّ الخبرات، والنبش في الثرى، والتراب، والتراث...

تلك الأيّام العِجاف

كلّ منّا يحمل همومَه، وقلقه، وهواجسَه، وأوهامَه، وأثافيه فوق ظهره ويمضي، ولا أحد يبالي بآلامه ومكابدته، ولا أحد يكترث بأحزانه، وعذاباته، ومعاناته، صيفنا قائظ مُستعر، وخريفنا شاحب مكفهرّ، وشتاؤنا صقيع مُنهمر، وربيعنا مُزهر مُزدهر..! تاريخنا حافل، وماضينا تليد، وتراثنا زاخر، إننا قوم كُثر، والكثرة قوّة، قالها ذات يومٍ فارس من حيّهم : (لا يسألون أخاهَم حين يندبهم / في النائبات إذا قال برهانا...) ! وقالها آخر: (حشدٌ على الحقّ عيّافو الخنا أنفٌ / إذا ألمّت بهم مكروهة صبرُوا....) وأقسم المجدُ حقّا ألاّ يحالفهم / حتى يحالفَ بطنَ الرّاحة الشّعرُ..)! وقال آخر: (تعيّرنا أنّا قليل عديدنا / فقلت لها إنّ الكرام قليل...) ! وبالإضافة لهذه الذخائر، والمفاخر لدينا الملايين، والبلايين ..والأهمّ من ذلك لدينا الأنفة والشموخ والسّؤدد والعزّة والمَجد والجَلد، لدينا الأبراج الشاهقة التي تناطح عنانَ السّماء، ومع ذلك أعوادنا ما زالت هشّة واهية، إاطلقنا بلا بوصلة ولا هادٍ نحو بطولات فردية، دونكيشوتية، تمرّدية، وهمية لا طائل ولا جدوى تحتها... !

إننا قوم رحماء بغيرنا، وإن كانت بنا غِلظة وفظاظة. مشهود لنا ومشهورون بالصّفح والتسامح، وإن كانت بنا أثَرَة وكبرياء. مع ذلك إننا رحماء بالصّغار والكبار، معروفون بهذه الثنائية المركّبة التي طالما تغنّى بها شعراؤنا، وصدح بها نبغاؤنا: فقال قائلهم: (نحنُ قومٌ تذيبنا الأعينُ النّجْلُ /على أنّا نذيبُ الحَدِيدَا...)، (طوعُ أيدى الغرامِ تقتادُنا الغِيدُ / ونقتاد في الطّعانِ الأسودَا..)، (وترَانا يومَ الكريهةِ أحرَاراً / وفي السّلم للغواني عبيدَا...) !

ومع ذلك على مرّ الأيّام، والأعوام، بل والقرون كشفنا عن مدى ضعفنا، وهشاشتنا، ووهننا، وخذلاننا، وخيبتنا، ولزمت الكآبة محيّانا، وسكنت الحسرة قلوبنا، وعزاؤنا.. أن الحربَ سجالٌ، والأيّامُ دولٌ...والتقهقر دهر مقيت، والحضارة برهة عابرة ... !

في الخامس عشر من شهر مايو(أيار) الجاري (2018) تكون قد مرّت سبعون عاما على "ذكرى نكبة فلسطين"، التي عانى الشعب الفلسطيني وقاسى منها الكثير منذ15/5/1948 انطلاقا من وعد آرثر جيمس بلفور المشؤوم 1917، ومروراً بالتقسيم اللعين 1947، والاحتلال الصّهيوني العسكري البغيض لما يقارب 80 في المائة من أرض فلسطين، وإعلان إقامة "دولة إسرائيل" عام 1948، وتشريد، وتشتيت ما يقارب المليون فلسطيني بعد احتلال مدنهم، وقراهم، ومداشرهم، وضيعهم، وأراضيهم، وإبعاد بعضهم إلى قطاع غزّة، والضفّة الغربيّة، ونهر الأردن، وإلى عدد من الأقطار العربية المجاورة، ثمّ وصولاً إلى "النكسة " في السادس من يونيو (حزيران) من عام 1967، حيث تلا تلك الأحداث والفواجع سلسلة متواصلة من المعاناة تلو المعاناة ما فتئنا نقاسي منها الكثير، وفي ظلّ ما تشهده الأوضاع المُزرية في مختلف البلدان والأوطان في الظروف الراهنة من نزاعات مذهبيّة، ومواجهات أيديولوجيّة، وحروب دينيّة، وصراعات طائفيّة، وخلافات عِرقية، وتطاحنات سياسيّة، وملاسنات كلامية، ونزاعات عرقية، ومهاترات يومية.. كلّ هذا المخاض العصيّ العسير، وهذا الأوار القائظ المُستعر، الله وحده يعلم ما هي عواقبه، وما هو مآله، ومنتهاه ... !

محمّد محمّد الخطّابي

* عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- (كولومبيا)