عندما أعلن رسميا عن فشل النموذج التنموي المتبع منذ عقود، كان من المفترض بل المطلوب من الحكومة تنظيم حوار مجتمعي حول الوضع الاقتصادي والاجتماعي المأزوم والمحتقن بغاية اجتراح حلول وبلورة بدائل مستقبلية، تستجيب لمطالب الحركة الجماهيرية الاحتجاجية والعفوية التي ما فتئت تتسع، وتبث في شرايين المجال السياسي الوطني جرعات أمل تخفف حالة الغمة التي تسبب فيها بلوغ الممارسة السياسية والنقابية درجة الحضيض. لكن الحكومة اختارت مقاربة أخرى تجاهلت ما يحبل به الوضع العام من احتمالات اتخاذ الأشكال الاحتجاجية العفوية مسارات تصعيدية و"مبدعة" دفاعا عن الخبز والحرية والكرامة، ورفضا لكل ما أنتجته سياسات الدولة منذ عقود من تفقير لأوسع فئات المجتمع، وتنديدا بمختلف أشكال الفساد والريع والاحتكار.

ولذلك، فكلما تصاعدت الحركة الاحتجاجية تجد الحكومة نفسها في حالة ارتباك وعجز عن التجاوب بـ"طرق ناعمة" إيجابية معها، وهكذا تمت شيطنة حراك الحسيمة وإلصاق تهمة الانفصال برموزه، وما أعقب ذلك من قمع واعتقالات ومحاكمات ما زالت مستمرة. واليوم، وبعد حملة المقاطعة الناجحة والمتواصلة والمحتضنة شعبيا وإبداعيا من لدن مختلف الفئات الاجتماعية، لم يحترم وزراء مكانتهم الاعتبارية بحكم موقع مسؤوليتهم، فأطلقوا لسانهم لسب المقاطعين (وعبرهم شعب) فهذا وزير المالية نعتهم بـ"المداويخ" من داخل المؤسسة التشريعية، أما الوزير المكلف بالشؤون العامة فلم يتمالك نفسه في الدفاع عن الاحتكار حتى كاد أن يغمى عليه من شدة الصراخ "خوفا على الاقتصاد الوطني، وعلى الاستثمار الأجنبي مغادرة البلاد"، وهذا الناطق الرسمي باسم الحكومة يلجأ إلى تهديد المقاطعين بتهمة "لا ساس ولا رأس لها" ولا نص قانوني طبعا.. أما رئيس الحكومة المغلوبة فما يؤرقه هو "جهله بالمجهولين الذين دعوا إلى المقاطعة"؛ وذلك في إصرار مرضي على نكران واقع أن المقاطعة فعل شعبي أولا وأخيرا، تحول إلى تظاهرة فنية غنت للمقاطعة بمختلف أهازيج ولهجات بلدنا المتنوعة.

إن السلوك الحكومي اتجاه مطالب الحراكات الشعبية، وتواطؤات جل الأحزاب وكذا عديد من هيئات المجتمع المدني، وتعالي نخب مختلفة عنها بدعوى رفض "العفوية والشعبوية "... لن يزيد الوضع الاجتماعي سوى احتقانا.

وعليه، فلا بديل عن إجراءات مستعجلة لتلطيف المناخ الاجتماعي والسياسي بالبلاد؛ من بينها:

وقف محاكمات معتقلي حراك الحسيمة وإطلاق سراحهم؛

اتخاذ تدابير ملموسة في مواجهة الفساد والاحتكار، في مقدمتها فك الارتباط بين السلطة والمال؛

فتح حوار مجتمعي حول البدائل الواقعية للنموذج التنموي، الذي قاد البلاد إلى هذا الوضع الاقتصادي والاجتماعي المأزوم؛

وقبل ذلك، تقديم اعتذار حكومي رسمي على إهانة عضو في الحكومة "لشعب المقاطعين"..

هذه وغيرها مداخل لتجاوز هذه "اللخبطة الحكومية" في مواجهة "صوت الشعب" ومطالبه العادلة.


 

عبد الجليل طليمات