هل يملك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استراتيجية واضحة ومحدّدة يعتمدها في سياساته وتوجهاته وتكتيكاته أم أن ردود أفعاله وانفعالاته ومفاجآته تبدو وكأنها خارج المألوف؟ باستثناء ما يضعه من حسابات تجارية وميل سريع للربح، حتى وإن بدا سلوكه كوميدياً أحياناً وتراجيدياً في أحيان أخرى، لكن الشيء الذي يظل ثابتاً لديه وبمثابة الركن الاستراتيجي في سلوكه وتصرفاته هو الحصول على صفقات تجارية سواءً بميزان السياسة والحرب والثقافة والصداقة، ولعلّ المشترك الجامع بين هذه الحقول جميعها هو التجارة .

وإذا كنّا نقول عن علم السياسة بأنها إدارة وتدبير وتنظيم وفن، فإن هدفها بالنسبة للرئيس الأمريكي هدفها الأساسي الحصول على الربح والاستحواذ على الثروات وإذكاء روح المنافسة إلى أقصاه. والمنافسة بالنسبة لهذا النمط من الساسة ورجال المال تعني مغالبة وسباقاً للفوز، فما بالك حين يتعلّق الأمر بالسياسات التي تخدم المصالح التجارية والاقتصادية، سواء على المستوى الخاص أم على المستوى العام.

ولعلّ "فنون الصفقة" كانت عنوان كتاب حمل اسمه قبل وصوله إلى دست الرئاسة، حين فكّر ثم قرّر دخول الانتخابات، ولم يكن يعتقد أنه سينال الفوز فيها، الأمر الذي اعتبر لاحقاً مفاجأة، ولكن مجرد دخول الانتخابات كان بالنسبة له صفقة كبيرة لمنافسته المتميزة وزيرة الخارجية السابقة السيدة هيلاري كلينتون، كما ورد في كتاب " نار وغضب" لمؤلفه مايكل وولف.

وكشفت فترة العام ونيّف المنصرمة ما تغيّر في أمريكا وفي الوقت نفسه ما ظلّ ثابتاً في " البيت الأبيض" وإذا كان وزن واشنطن قد خفّ حتى لدى أصدقائها، فإن ما بقي واضحاً على الرغم من تقلّبات الرئيس ترامب بلا حدود أو ضفاف هو " عقد الصفقات"، وتلك من سمات السياسة الجديدة التجارية بامتياز، وهو ما تعكسه تغريداته الشهيرة أحياناً التي ينفرد بها عن كبار قادة العالم.

وقد لخّص غاري كوهين كبير المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض والجنرال هربرت ماكماستر مستشار الأمن القومي في مقال مشترك لهما " مبدأ ترامب" بقولهما : إن العالم ليس مجتمعاً دولياً، بل هو ميدان تنخرط فيه الأمم واللاعبون غير الحكوميين ورجال الأعمال ويتنافسون على تأمين المصالح والامتيازات" وفي ذلك تكثيف في التعبير ليس عن رؤيتهما فحسب، بل لما يمثّله الرئيس ترامب من فهم للسياسة الدولية.

وإذا كانت التجارة والاقتصاد هما الركنان الأساسيان في ميدان ترامب، فإن مبدأه يمكن تعميمه على جميع مناحي الحياة، ابتداء من العلاقات الدولية، حيث أبدى تحفّظات على العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية أو اعترض عليها وطلب إعادة النظر فيها ، مثلما حصل بشأن الملف النووي الإيراني واتفاقية باريس حول تبدلات المناخ ، إضافة إلى القيود التي وضعها على البضائع الصينية، وهي اتفاقيات وقّعها سلفه الرئيس باراك أوباما، وحجته جاهزة باستمرار وهي : إنها اتفاقيات مجحفة بحق أمريكا أو أنها تسجل عجزاً في ميزان المدفوعات وخصوصاً مع الصين، وإن على الحلفاء والأصدقاء الذين تحميهم واشنطن دفع ثمن ذلك، وكأن أمريكا قوة للإيجار.

وقد تجاوزت ميزانية البنتاغون للأمن القومي سبعمائة مليار دولار أمريكي، وهذا يعني الانتقال إلى "بناء استراتيجية تنافسية"، على الضد من استراتيجية الرئيس أوباما الذي أقام "استراتيجية التعاون" وكانت الأساس في برنامجه الانتخابي والتي وفقاً لها تمكن من الفوز بأصوات الناخبين، خصوصاً بعد مغامرات جورج بوش الابن، ولاسيّما التورط الأمريكي في العراق وقبله في أفغانستان، لكن ترامب عاد ورفع شعار "أمريكا أولاً" مغازلاً السكان البيض ومحذّراً من الهجرة والعمالة الوافدة وغير الشرعية.

هل يبقى إذاً معنى عن كون الإرهاب هو مصدر القلق الأمريكي أم ثمة انخفاض في منزلته لدرجة إن فكرة المنافس الاستراتيجي هي التي حلّت محلّه لمواجهة الصين وروسيا؟ كما ارتفع منسوب التوتر ضد كوريا الشمالية وإيران، فالصين ساحتها اقتصادية ويقتضي مواجهتها أمريكياً ومن جانب جيرانها لمنع انتشارها العسكري في بحر الصين الجنوبي وروسيا تجاوزت على أوكرانيا وتحاول أن تلعب في ساحة الدول الاشتراكية السابقة، بل تعيق نشر الصواريخ البالستية على حدودها من جانب حلف الناتو في بولونيا ورومانيا مثلما تمدّدت في سوريا وانخرطت في الحرب المندلعة مقيمة قواعد عسكرية على البحر المتوسط.

أما كوريا الشمالية فحسب واشنطن إنها تعمل لتطوير ترسانتها الصاروخية الباليستية وينبغي وضع حدّ لها وبالنسبة لإيران فإنها زعزعت الاستقرار في الشرق الأوسط وتعمل على مدّ نفوذها في العراق وسوريا ولبنان واليمن وبعض دول الخليج، الأمر الذي يحتاج إلى تعزيز قوة واشنطن وحلفائها في المنطقة، ولاسيّما " إسرائيل" التي وعدها بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس مع كونه إجراءً خارج نطاق القانون الدولي وبالضد من قرارات مجلس الأمن الدولي.

وإذا كانت الحرب الباردة قد دارت في المسرح الأوروبي بين الغرب والشرق ، لكن هذه الطبعة الجديدة لها تمتدّ من المسرح الأوراسي إلى المسرح الشرق أوسطي وإلى مديات أبعد حسب مبدأ ترامب.

 

عبد الحسين شعبان


 

drhussainshaban21@gmail.com