مفهوم التنشئة الإجتماعية يعتبر من بين المفاهيم الكبرى التي تندرج ضمن الجهاز المفاهيمي في حقل علوم التربية، إذا لم نقل أنه يشكل القاعدة الأساس التي يتأسس عليها هذا حقل المعرفي، نظرا لما تلعبه من دور هام في بناء وتكوين شخصية الطفل على المستويين النفسي والإجتماعي، وفي مستوى ثالث الثقافي أيضا (...)، ولعل من بين المؤسسات التي لها علاقة مباشرة بهذا الشأن؛ نجد في مقدمتها مؤسسة الأسرة وتليها مؤسسة المدرسة، وبعدها باقي المؤسسات مثل: الإعلام، دور الثقافة، دور الشباب، وما إلى ذلك. وكل هذه المؤسسات تؤثر بشكل أو بآخر في بناء وتكوين شخصية الطفل، انطلاقا من موقعها، ووظيفتها في المجتمع باعتباره مؤسسة كبرى تتفرع منه باقي المؤسسات الصغرى السالفة الذكر.

وفي هذا السياق يُعرِّف معجم مصطلحات العلوم الإجتماعية أن التنشئة الإجتماعية هي "ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺘﻢ ﺑﻬﺎ ﺍﻧﺘﻘﺎﻝ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﻣﻦ ﺟﻴﻞ ﺇﻟﻰ ﺟﻴﻞ، ﻭﺍﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺘﻢ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ ﺗﺸﻜﻴﻞ ﺍﻷﻓﺮﺍﺩ ﻣﻨﺬ ﻃﻔﻮﻟﺘﻬﻢ ﺣﺘﻰ ﻳﻤﻜﻨﻬﻢ ﺍﻟﻤﻌﻴﺸﺔ ﻓﻲ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﺫﻱ ﺛﻘﺎﻓﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ، ﻭﻳﺪﺧﻞ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻣﺎ ﻳﻠﻘﻨﻪ ﺍﻵﺑﺎﺀ ﻭﺍﻟﻤﺪﺭﺳﺔ ﻭﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﻟﻸﻓﺮﺍﺩ ﻣﻦ ﻟﻐﺔ ﻭﺩﻳﻦ ﻭﺗﻘﺎﻟﻴﺪ ﻭﻗﻴﻢ ﻭﻣﻌﻠﻮﻣﺎﺕ ﻭﻣﻬﺎﺭﺍﺕ". وهذا الطرح السوسيولوجي قد يتوافق الى حد ما مع الطرح القائل أن الطفل يأتي الى الوجود عبارة عن صفحة بيضاء، وكل المعارف الثقافية، والقيم الأخلاقية يتم اكتسابها عن طريق المؤسسات الإجتماعية نتيجة التأثير (...) الذي يحصل؛ أي أن المجتمع هو من يحدد طبيعة الطفل الذي يريده سواء على مستوى الاجتماعي والروحي والثقافي وحتى المعرفي (...)، فالتنشئة الإجتماعية "ﻫﻲ ﺍﻟﻔﻌﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻤﺎﺭﺳﻪ ﺍﻷﺟﻴﺎﻝ ﺍﻟﺮﺍﺷﺪﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺟﻴﺎﻝ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗﺼﺒﺢ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﻧﺎﺿﺠﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎﺓ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، ﻭﻣﻮﺿﻮﻋﻬﺎ ﺇﺛﺎﺭﺓ ﻭ ﺗﻨﻤﻴﺔ ﻋﺪﺩ ﻣﻦ ﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍﺕ ﺍﻟﺠﺴﺪﻳﺔ ﻭ ﺍﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﻭ ﺍﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻄﻔﻞ، ﻭ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺘﻄﻠﺒﻬﺎ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ... ﻭﺍﻟﻮﺳﻂ ﺍﻟﺨﺎﺹ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻮﺟﻪ ﺇﻟﻴﻪ" يقول اميل دور كايم في كتابه التربية والسوسيولوجيا.

فدور التنشئة الإجتماعية هو توجيه مسار الطفل لما هو أفضل، وانتقاء أفضل الطرق التربوية في عملية التعامل معه، وفق القوانين التي تؤطر المجتمع؛ من أجل خلق فرد قادر على الإنخراط في الحياة الإجتماعية والعملية دون أدنى صعوبة، وفي الصدد يقول مفكر عصر الأنور جون جاك روسوا أن التربية هي "ﺇﻋﺪﺍﺩ ﺍﻟﻄﻔﻞ ﻟﻴﺼﺒﺢ ﻗﺎﺩﺭﺍ ﻋﻠﻰ ﺿﺒﻂ ﺣﺮﻳﺘﻪ ﻭﻋﻠﻰ ﺍﺳﺘﻌﻤﺎﻝ ﻗﻮﺗﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻌﻠﻢ، ﻭﺗﻜﻮﻳﻦ ﻋﺎﺩﺍﺗﻪ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻴﺼﻴﺮ ﻗﺎﺩﺭﺍ ﻋﻠﻰ ﺿﺒﻂ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻘﻮﻡ ﺑﻌﻤﻞ ﻣﻦ ﺍﻷﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺄﺗﻴﻬﺎ ﺑﺤﺮﻳﺔ ﻣﻦ ﺇﺭﺍﺩﺗﻪ". وهذا الهدف يمكن تحقيقه إذا تضافرت الجهود ما بين المؤسسات الاجتماعية التى لها علاقة بالموضوع، وكل واحدة يجب أن تقوم بالدور المنوط بها.

 

و مجمل القول؛ قد تتعدد التعريفات لمفهوم التنشئة الإجتماعية من عالم اجتماع لآخر، لكن الطرح واحد، يتمثل في معادلة بسيطة جدا، يمكن ايجازها في القول التالي: الشخص الذي نريده غدا فهو طفل اليوم، و تبقى الكيفية والشروط في عملية التنشئة الإجتماعية هي التي تحدد أي شخص نريد..!



خليل البكراوي