ظاهرة تراجع نفس القراءة

رحم الله زمانا ولّى بيننا ؛ كان فيه نفس القراءة قويا تصل نسبه أحيانا إلى التهام صفحات كتاب ضخم في أسبوع أو بضعة أيام ، دونما شعور بالملل أو الكلل .. لكن ؛ ومع الانفجار المعرفي وشيوع ثقافة الصورة التي تبصم الألفية الثالثة ؛ أخذ هذا النفَس والإقبال على القراءة يتراجعان حتى وصلا إلى مستويات مخجلة ؛ حملت القارئ "الحديث" على التبرم من النصوص المطولة والاكتفاء باختلاس نظرة عشوائية وسريعة إلى فقراتها ، ومن ثم بناء مواقف ارتجالية هشة حول مواضيعها ، سيما إن كانت محمولة على النت ، أما الورقية منها فربما عادت بتقادمها "متجاوزة" أشبه بالمستحثات Fossil .

وتبعا لتداعيات هذه الطفرة التكنولوجية ، يمكن للشاعر أبي الطيب المتنبي الذي صدح منذ قرون بشطر بيته الشعري الشهير " خير جليس في الزمان كتاب " أن يغيره ؛ لو عاش زماننا هذا ؛ إلى ( خير جليس في الزمان بورطابل ! ) بحكم أن هذه الوسيلة الأخيرة أضحت السائدة والمهيمنة على معظم أنشطتنا اليدوية/الذهنية في معانقة الفضاء الأزرق والعيش في أزمنة افتراضية رهيبة ؛ نزعت منا ـ بالكاد ـ إنسيتنا وحولت انشغالاتنا إلى مطاردة محمومة لهواجسنا وفضولاتنا الرقمية . ولعل من أبرز تداعيات هذا التحول الرقمي ظاهرة ابتسار النص واعتماد الانتقائية في قراءته ؛ كأن نتوقف فقط عند بعض عناوينه أو فقراته ؛ في أفضل أحوال القراءة ؛ كما يجري حاليا عند معظم جمهور القراء ومطالعته للصحف اليومية ، إذا استثنينا الأخبار ذات النزعة الإثارية Excitative أو الإشهارية ، منها أحداث الإجرام والسطو والنصب والاحتيال والتي تقبل عليها عينة من القراء بنهم شديد مهما طالت نصوصها ، على أن هناك قراءة "وظيفية" ينشد أصحابها لونا أو بالأحرى جنسا أدبيا كالقصة القصيرة وإن كادت تختفي بيننا إلى جانب الشعر ، ثم الكتابات ذات النزعات العرقية كالانتصار للسان العربي أو الأمازيغي .. دون أن نغفل عن جانب إعداد البحوث والأطروحات الجامعية وما تستلزمه من قراءة منهجية منتظمة ؛ بيد أن فريقا آخر من (القراء) يعزو عزوفه عن القراءة إلى ندرة الكتابات الرصينة والمواضيع "الهادفة" وإن كانوا كلهم يندرجون ؛ بمعنى أو آخر ؛ ضمن شعب يحتل درجة متدنية في القراءة .



عبد اللطيف مجدوب