تقول الكاكفونيا المخزنية: "لنا دستور متقدم"، إذن يجب أن نسألها، وما هي ثمار هذا الدستور المتقدم؟ تقول أيضاً هذه الكاكفونيا المخزنية: "إننا حققنا مكاسب في مجال حقوق الإنسان"، ونحن نسألها - متى تسامحتم مع المختلفين عنكم دينيا؟.

أما بالنسبة للعمل الحزبي فهذه الكاكفونيا تشرئب معلنة أن "المغرب يعرف تعددية حزبية" (بالمغرب حالياً حوالي ستة وثلاثون حزبًَا)، وتتناسى أن الديمقراطية ليست بتعدد الأحزاب، بل الديمقراطية تمارس بتنافس البرامج السياسية بين الفرقاء السياسيين. تعدد الأحزاب لا يعني بالضرورة أن النظام السياسي ديمقراطي عندنا، وأكبر دليل هو البلوكاج السياسي سنة 2016 الذي قال السيد بنكيران "إنه سينفرج قريباً.."، حسب ما صرحت به الصحافة اليوم.

إن نظامنا السياسي هو السبب في تكريس هذا البلوكاج، بل إن نظامنا السياسي يكرس هذا الخيار لخلق فراغ في الساحة السياسية بتراشق هذه الأحزاب في ما بينها، ومن ثم إلهاء الرأي العام من أجل الرجوع للسلطة الأولى بطريقة سلسة، وتدبير الشأن العام من طرف الككفونية الانتهازية في صورة أحزاب صورية، فجل الدول الديمقراطية لا تعرف هذه التعددية الحزبية التي نعرفها نحن ببلادنا، بل تعرف أحزابا قليلة وفعالة، وعندها برامج تسعى إلى تحقيقها في حالة فوزها انتخابيا.

فما موقع الدستور والأحزاب السياسية ومظاهر العصر من نظام قائم على إمارة المؤمنين؟.

أي دور للأحزاب والملك يحتل الدور المركزي في الحكم؟ أي سلطة يمكن الوصول إليها بعد المشاركة السياسية والملك هو مركز السلطة ومنبعها؟ (الحكم حكمه والقول قوله)؛ فالنظام السياسي المغربي ظاهره دستور ومؤسسات وبرلمان وحكومة ومجالس جهوية ومحلية، وصحافة حزبية وأخرى مستقلة، وباطنه نظام تقليداني عتيق لا يسمح بأن تمر أي مناسبة دون أن يسجل هيمنته وسطوته وقدرته على التكيف مع أي مستجد، تقليدانية النظام السياسي لها آليات وميكانيزمات تمكن من هيمنة الطابع التقليدي على حساب مظاهر العصر، لأجل ذلك لم ينجح في المغرب التناوب ولا التداول على السلطة، ولم يستطع الشعب في أي يوم من الأيام أن يكون مصدرا للسيادة.

توجد أشكال وهياكل وأسماء تشبه ما لدى الديمقراطيات الغربية، لكن المضامين تسحب من طرف أجهزة لها عراقة وطول مراس في إغلاق كل منافذ السياسة والسلطة، باستثناء منفذ القصر، منبع كل السلط ومركز النظام السياسي ومحركه.

هذه الخلاصة هي ما عبر عنه قائد التناوب الأول، عبد الرحمان اليوسفي، غداة نهاية ولايته بقوله: "إن ما حصل بعد تعيين وزير أول خلفه بدون انتماء هو انقلاب على المنهجية الديمقراطية"، التي اعتقد الجميع أنها دشنت لتدوم، وأنها قطيعة مع الماضي والأعراف والممارسات العتيقة والمخزن..المخزن الذي اعتقد رفاق اليوسفي أنه مات بعد 1998، عاد من جديد وظهر بانقلابه وطرده لمنهجية غربية عنه، تحملها مؤقتا لتجاوز ظروف مؤقتة تم نبذها وعاد إلى أصوله.

إن مظاهر الحداثة السياسية التي وجد المغرب نفسه مجبرا على التعاطي معها، كالدستور والأحزاب والمؤسسات بصورتهما العصرية، لا دور لها في الميدان سوى خدمة الطابع التقليداني للنسق السياسي المغربي، فالمفاهيم السياسية المعاصرة ظهرت في المغرب ليس للتطبيق، وإنما لتأطير المشاركة السياسية والمشاركين في السياسة واحتواء الجميع لخدمة الككفونيا المخزنة ودعم توازنها وديمومتها. إن الدستور مثلاً ليس هو الذي ينظم علاقة الحاكمين بالمحكومين...فهذه العلاقة تنظمها إمارة المؤمنين، وأما الدستور فهو ينظم علاقة المحكومين في ما بينهم؛ فالدستور منحة من الملك وتوزيع السلط والأدوار أمر لا يهم الملك، بل ينطبق على غيره، والأحزاب السياسية لا يسمح لها بأن تصل إلى السلطة وتحكم، بل دورها تغذية البرلمان والحكومة بـ"أعوان الملك"؛ فالملك هو الذي يحكم وهو السلطة الأولى وليس الشعب. والتناوب لم يدشن ليحترم، ولكن دشن لضمان انتقال أحسن للحكم، ولتجاوز ما سماه الملك الحسن الثاني "السكتة القلبية". والإسلاميون سمح لهم بقيادة الحكومة ليس لأن الشعب يريد ذلك، وإنما لأن المخزن احتاج إلى من يواصل سياسة السابقين ويطبقها بأسلوب جديد لم يلحقه النفور من طرف الشعب.

البرلمان ليس هو الممثل الأسمى للشعب، فالممثل الأسمى هو الملك، ونواب الشعب أعوان الملك، لا يستقلون باختصاصاتهم، بل هم مفوضون للتشريع في ما يريده الملك، والحكومة لا تعني أنها مؤسسة للحكم، بل هي مؤسسة لأعوان الملك، تعمل تحت رئاسته وإشرافه، وإن لم يكن الملك حاضرا في جلساتها فهو حاضر في أعمالها، ولا يفوته منها شيء، فلا توجد صغيرة ولا كبيرة إلا وتمر على يديه. والمعارضة لا تعني معارضة الحكم ولا معارضة الملك، بل معارضة الحكومة وأحزابها، ولكنها لا تعني معارضة أي شيء، فالغالب الأعم هو التوافق والتراضي على كل ما يمكن التوافق عليه. ووجود مؤسسات عصرية ومظاهر الحداثة السياسية بالمغرب ليس دليلا على توازي نمطين من الأنساق السياسية، نمط تقليدي وآخر عصري، وإنما يعني هيمنة الأول على الثاني، فالتقليدانية إستراتيجية ينهجها النظام السياسي عن سبق إصرار، وهدفها ابتلاع ما يظهر على الساحة من مستجدات وأشكال وهياكل تشبه ما هو لدى العالم الغربي، كما أن هدفها العمل من داخل تلك المؤسسات العصرية واحتواءها وإفراغها من مضامينها والرجوع بالجميع إلى حقل إمارة المؤمنين، حيث الملك هو مصدر كل سلطة، يسود ويحكم، فصل السلط لا يسري عليه، والدستور لا يحد من سلطاته، وله حق التدخل كما أراد.

إن تهميش حقل الدولة الحديثة سببه أن جميع مظاهرها لم تأت نتيجة حركة مطلبية، وإنما جاءت لأن الملك هو من منحها، فالدستور منحة وظهير الحريات المنظم لحق التعددية الحزبية منحة، والتعديلات الدستورية كلها بـ"تنازلاتها" منحة، والتناوب ممنوح، والمجتمع المدني مدين للسلطة، والإسلاميون مدينون للقصر بسماحه لهم بالعمل السياسي. معالم النظام السياسي المغربي تشكلت عقب حصول المغرب على الاستقلال، إذ في وقت اعتقدت الحركة الوطنية أن الأمور تتجه نحو إحداث قطيعة مع الماضي بتقاليده وأعرافه وممارساته، وخصوصا أنه صدر منذ 1958 "العهد الملكي" الذي أفرز تعددية حزبية ونقابية وما يرافقهما من حريات في الرأي والتجمع والتعبير، كما أفرز مؤسسات تمثيلية، في ذلك الوقت كان للملك محمد الخامس رأي مغاير لوجهة هذه المؤسسات، إذ تم ربطها بضرورة أن توافق ركيزتين:

أولهما: الإسلام، فلا يسمح لكل ما صدر من مرتكزات تقوم عليها الدولة الحديثة أن تخالف إمارة المؤمنين ومقتضيات البيعة، وما ينتج عنها بخصوص وحدة السلطة وتجسدها في شخص الملك.

ثانيتهما: التقاليد الخاصة بالدولة القومية، والأعراف والممارسات الخاصة بالمغرب في أمور الحكم والسلطة وممارستها.

يقول محمد الخامس، متحدثا عن الديمقراطية التي يرتضيها للشعب: "لا نستوردها من الخارج - أي الديمقراطية - على علاتها كما تستورد البضائع، بل نستمدها من واقعنا القومي، من قيمنا الروحية التي لا تفنى ومن ديننا الحنيف" (انبعاث أمة - ج 3).

هذه التقليدانية أسسها محمد الخامس وسيسير بها الحسن الثاني إلى أبعد مداها. التقليدانية هي جعل مؤسسات الدولة الحديثة في خدمة التقاليد، وإعلاء حقل إمارة المؤمنين على حقل الدولة العصرية، التقليدانية آلية زاحفة من الماضي، وظيفتها تحريف وجهة ما يفرضه الحاضر بمفاهيمه ومؤسساته، فهي لا تمنع قيام مؤسسات عصرية بل تمنعها من أن تتوجه نحو ما تخلق لأجله وتمكن من تطويعها لخدمة ذلك الماضي.

لقد كان المجتمع الروماني محكوما بسلطة أصلها السماء كما قرأنا في "جمهورية أفلاطون"، إذ كان الحكام يقدمون أنفسهم للشعب، وإلى جوار الحاكم كانت هناك مؤسسة سياسية تدعى "مجلس الشيوخ"، كانت تضم قدماء السياسيين الذين تتحدد مهمتهم، إضافة إلى تقديم النصائح ذات المدلول والأثر السياسيين في الحياة السياسية، وفي مجال صناعة القرار السياسي، وفي عرض جميع القرارات على أنظار المجلس لفحص مدى مطابقتها لما كان سائدا من قيم دينية وعادات قومية؛ وعليه فقد كان "مجلس الشعب" مؤسسة عصرية في ذلك الزمن، لكنها كانت موضوعة تحت هيمنة الماضي بقيمه وعاداته وأعرافه، حينها كان البرلمان والحياة النيابية وما يتبعها من حقوق في الرأي والتعبير، كل ذلك كان مشروطا بخدمة الماضي..كانت الحداثة السياسية بلسان العصر مجرد واجهة!.

 

محمد سعيد