أجمع المشاركون في ندوة انتظمت في إسطنبول 4 ـ 6 مايو الحالي، حول الترتيبات الجديدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بدعوة من منتدى الشرق (مقره في إسطنبول) ومركز إفريقيا الشرق الأوسط الجنوب إفريقي، أن الغائب الأكبر في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو الدولة بصفتها عقدا اجتماعيا، وأنه لا يسوغ والحالة هذه الخلط بين النظام والدولة، مع وقوف المتناظرين على ظواهر طفيلية ظهرت في المنطقة من قبيل البنيات الموازية، أو فئات محدود، فضلا عن عناصر تنتصب بديلا للدولة، ما جعل الأوضاع القائمة تستفحل. 

غياب الدولة أو الخلط ما بين النظام والدولة هو ما يفسر في جزء ما تعرفه بعض دول المنطقة من مآسي وصدامات وإحن. كان من الضروري، رغم أن المشاركين يستحضرون ثقل الواقع وراهنيته، التعريج على أركيولوجيا مفاهيم برزت في الغرب وفي سياقات تاريخية دقيقة، وعبر مسار أو سيرورة، ولذلك يصعب استنباتها ما لم تقم عملية تبني أو تبيئة.

العقد الاجتماعي ليس عقد إذعان، ويفترض، حسب النص المؤسس لهوبز (الليفيتان) ضمان الأمن أولا، فالوئام المدني، وثالثا الرفاه، بدون هذه الوظائف يصبح العقد مجروحا ويكتنفه التدليس. اضطلاع الدولة بوظائفها الثلاث الأساسية المكونة لمتن العقد، وانخراط مكونات المجتمع دليل صحة وعافية، وعدم اضطلاعها بذلك سبب اعتلال بل انتحار. التوترات الاجتماعية مؤشر على اهتزاز العقد الاجتماعي والحروب الأهلية علامة على نهايته. نعم اغتنت نظرية العقد الاجتماعي بإسهام لوك الذي ركز على الحرية، فروسو الذي أضاف العدالة الاجتماعية، ولكن المتن الأساسي الذي وضعه هوبز لم يمح الوظائف الأولى الثلاث.

التنظير والمفاهيم ليسا مضاربة ذهنية منفصله عن الواقع، أو حذلقة أكاديمية، بل هما مرتبطان بواقع وسياق. نظرية العقد الاجتماعي ظهرت كرد على الحروب الأهلية التي مزقت أوصال أوروبا قامت بناء على اعتبارات دينية، وانتظمت أوروبا إثرها أو جزء منها على بلورة نظام جديد لحل النزاعات، في ما عُرف بمعاهدة ويستفاليا سنة 1648، والتي تعتبر اللبنة الأساسية للنظام العالمي الحديث وقاعدة للعمل الدبلوماسي.

في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لم ينضج بعدُ تصور حول العقد الاجتماعي، ولم يتم فرز ميكانيزمات لحل النزاعات، أي ليس هناك ويستفاليا في المنطقة تنهي وضع الصراعات الداخلية والبينية. المنطقة على شفير أخطار ماحقة، إنْ على المستوى الداخلي أو البيني أو الإقليمي، إن لم يستبق الأمور حكماؤها وزعماؤها من خلال وضع ميكانيزمات جديدة لحل النزاعات.

ضعف العقد الاجتماعي أجّج الانتماءات الطائفية، سواء على المستوى العقدي أو الإثني، وهي أوضاع يمكن أن تستفحل بالتدرج، من توتر، إلى حرب أهلية، فانقسام بالقوة أو بالفعل إلى الانفصال. ليس ذلك تخرصا، بل هناك سوابق كما في الحرب الأهلية في لبنان، أو الانفصال في السودان أو الانقسام الفعلي (إقليم كردستان العراق)، مع بروز أشكال عدة من التنظيمات تتهدد بنية الدولة، ليس فقط في وظائف اجتماعية عجزت الدولة عن تلبيتها، أو في ما يرتبط بهوية مناطق منها، بل من خلال مزاحمتها في أهم وظيفة تقترن بالدول، وهي احتكار العنف المنظم، مع ظاهرة المليشيات، والتنظيمات الإرهابية ذات الطبيعة غير الوطنية.

الأخطار الإقليمية تتخذ أبعادا جديدة، ففضلا عن التنافس بين البلدان المتجاورة حول قضايا ترسيم الحدود، أو الزعامة، أو الاختلافات الأيديولوجية، يمكن لبؤر التوتر أن تتطور إلى مواجهات مفتوحة. لا يمكن الزعم بضبطها أو التحكم فيها، خاصة مع ترنح النظام العربي وتنظيماته المختلفة، وغياب آليات لحل النزاعات، وانشغال القوى التي كانت تضطلع لفترة بدور الحَكَم أو الموئل، بقضاياها الداخلية وأولوياتها، يضاف إلى ذلك عودة شبح الحرب الباردة، وإمكانية توزع المنطقة بين معسكرين في مواجهات قد تختلف طبيعتها، من مستترة إلى مفتوحة. واللافت أن روسيا تسعى إلى العودة للمنطقة واستعادة مناطق النفوذ التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي. تزداد المخاطر مع توزع المنطقة بين أحلاف ذات طبيعة مذهبية، أو بتعبير أدق، توزعها على قطبين سني وشيعي.

واقع حالك ووضع كاب هو واقع منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، يفترض قراءة دقيقة، وفهما عميقا من أجل الانتقال من الوصف إلى الوصفة، ومن التشخيص إلى المعالجة. طبيعة العمل السياسي هو تدبر الخلافات عن طريق الحوار والمفاوضة. العمل السياسي لا ينفي الخلاف ولا يقفز عليه، ولكن العمل السياسي لا يمكن أن يقوم من دون ميكانيزمات ومن دون قواعد.
بيد أن الفاعل السياسي رغم حنكته يتحرك في دائرة الممكن، والظرفية الحالية تستوجب التحرك في سياق أبعد من الممكن، أي هتك حجب ديكتات الواقع، وخرق القواعد القائمة.

كل وضع قائم، مهما ناء تحت ثقل الإكراهات، يمكن أن ينطوي على سوانح. التوتر ليس قدرا والصدام ليس حتمية. ويمكن التحكم في المآلات قبل اندلاعها، أما إذا اندلعت فهي تستعصي على الضبط ، وتنحو غالبا نحو التعقيد والتصعيد.
عالم اليوم يخضع لمنطق الاقتصاد، ويمكن للاقتصاد، من خلال إقامة علاقات تعاون إقليمي أن يفرز ثقافة جديدة، ومنطقا جديدا ودينامية جديدة، لكن الغالب في علاقات دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط هو السياسي، ولذلك لا يمكن وضع قطار الاقتصاد على السكة، بدون وضع القاطرة السياسة. المحدد السياسي أكثر حسما وتحديدا من العامل الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

من الأشياء اللافتة ما أجمع عليه كثير من المتدخلين من ضرورة إدراج قوى إقليمية (تركيا، إيران، وضمنيا جنوب افريقيا) كأطراف لحلحلة الأوضاع، وإرساء وضع جديد، باعتبارها تتبني مقاربات براغماتية وعقلانية، في غياب قوى عربية يمكنها أن تضطلع بهذا الدور. لا شيء طبعا يمنع أن تتلاقى المصالح والمقاربات والأهداف، ولكن من المؤسف أن تعجز منطقة بحمولتها التاريخية والثقافية وإمكاناتها، عن إفراز مكيانزمات لحل نزاعاتها، وإرساء قواعد جديدة وارتكانها لقوى إقليمية تُدبر شؤونها.

ويشبه وضع دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا، ما عبر عنه الشاعر ما قبل الإسلام (الجاهلي) عن وضع قبيلة تيم التي كانت الأمور تقرر في غيابها، وإن حضرت لم يؤخذ برأيها:
ويُقضى الأمر حين تغيب تَيِمٌ ولا يُستأمَرون وهم شهود

المفكر والكاتب ذ.حسن اوريد